الحلقة الأولى
يقظة الأحلام
ضاقـت بي الأرض؛ فما عـدت أجد عليها وطناً يضـمني بين أضلعه، غاصت في أعماقي كل معاني الذل, فدنست دمي، ما عدت أنعم بالعزة والجاه، أصبحت المهانة ترياق حياتي، مُسخ تمثالُ القهر في دمي؛ فسجدت له كل جوارحي، جنَّتْ علي آمالي ليالٍ طوال، كم كنت سعيداً في زمان مضى، لقد ملكت من الأراضي الكثير، و كان آبائي من الصفوة المختارة، و اليوم ما عاد لهم ذكر، ضيعته الآمال الجامحة، ضيعته أضغاث الأحلام الواجفة، لا بل ضيعه ذلك الأسد الهصور, الذي منعنا الهيمنة و السطوة، نعم هو الذي ضيع ذكرهم و ضيعنا.
- لابد من قتلـ....
- لكنه أسد يجمـد الدماء في العــروق.
- لديه من الحماة الساهرين عليه الكثير.
- إنه يسهر على حماية أرضه.
- لا يغفل عنها أبداً.
- إنه يتوسع فيها و يحصد من ورائهـا الحـب و الثمر.
- شجـرها كثير النخيل و الأعناب و التين و الزيتون -كما يقولون – و غيرها و غيرها.
- أرض خصبة، و عجيبة.
- كلما وضعوا بها من بذور أنبتت, حتى و لو زرعوهـا مراتٍ عديدةً في العام الواحد.
- في كل سنبلة......حبة.
- أرضٌ جميلة، و ساحرة.
- أرضٌ مقدسة.
- أرض تأخذ العقل, و يجن المرء إذا ما نظر إليها.
- أرضٌ.....أرضٌ....تعساً لأرضٍ ليست في أيدينا نحن المساكين.
- آهٍ يا ذلك الرأس الذي هوى في حمأة التفكير.
- آه يا ذلك القلب العابس.
- مَنْ الذي قطَّع شريان وجودك, الممتد من حرمة منبعه إلى فرات دمائه، لتصل به إلى كنانة هيكله المراد؟!
- مَنْ يدفع الثمن دماً يمزق أراضينا.
- من يقتلنا مرتين, يأخذنا و أراضينا.
- آهٍ من صرخةٍ دوَّت في أذن الزمان؛ فقطَّعت أحشاء الحاسدين.
- آهٍٍ من تدابيرَ مزقت جمع العدو.
- من ذا الذي يحييها؟
- أين أنت يا ملهمي؟
- يا من طويت الأرض طياً؛ لتخلص كلمتك المختارة من سهام القهر.
- أين أنت يا ماجدي؟!
- يا من آنست ذلك اللهيب الدافئ.
- يا من سمكت سماء العزة و الجاه: نوراً يلقى عليك نبراس كلماته؛ فتناديه و يناديك و تحاوره و يحاورك؛ لتبث في جوف الدهر كرامتنا و مجدنا.
- قل لي يا ملهمي: من ذا الذي يستطيع أن يكسر هذا القهر, فيخضب الأرض بعد أن ضمدت جراحها؟!
- من يمحو ذلنا- نحن المساكين - نعطيه من الثروات و الخيرات ما لا يطيق.
- لكن المذل جبار, نعم جبار.
- من لي بجبار مثله, يمكننا منه؟!
- منذ متى و أنت تقهرنا؟
- خرجت على الناس بسحرك, و تركناك.
- أبدعت من البيان حديثاً, يهز أعواد القلوب طرباً, و تركناك.
- مزقت أفئدة الناس وجداً, و تركناك.
- سقيت أديم الأرض عذب السمو و العلو بعد أن طويتها طياً, و تركناك.
- رحت تصنع من الرمال رجالاً من حديد, و تركناك.
- مزجت بين الألداد حباً بعد كره و بغض، و فرحاً بعد ترح و حزن؛ فأتلفت بك القلوب الخربة و فوَّت علينا الفرصة, و تركناك.
- ناصبتنا العداء و كشفت مخادع قلوبنا, و تركناك.
- مزقت جموعنا؛ حتى أصبحت أشلاءَ همٍ و غمٍ, و تركناك.
- انطلقتْ كلماتُك من جوف الأرض إلى كبد السماء؛ لترتد إلى الأرض سراجاً, يضيء لهم طريق ظلمتنا و نكستنا, و تركناك.
- بسطت ضياءك شرقاً و غرباً رداءَ محبةٍ و ألفةٍ, و تركناك.
- رحت تحث أبناءك على أن يسدوا فُرجَ الصفوف, و فوَّت علينا فرصة المرور بين قلوبهم, و تركناك.
- جففت بحار الجفاء من نهر ثغرك الباسم؛ لتحفر في القلوب جداول الحب و الصفاء و منعتنا الغوص في تلك البحار خِلسةً, و تركناك.
- سبيت قلوبهم بحديث لا تقاومه الجوارح, و جمعتهم حولك جسداً واحداً, و تركناك.
- ضرب رجالك إليك أكباد الإبل سيراً, و تلقيتهم هاشا باشا و تغشيتنا بعداوتهم, فحاربوا منا الأحمر و الأسود, و تركناك.
- تخندقنا بك و نصبنا في طريقك كل شَرَكٍ فأوقعتنا - بفكر لم نعهده من قبل - فيما حفرنا لك, و ضاعت هيبتنا, و تركناك.
- حاصرت قلوبنا الفزعة من مجيئك, فمزقتها شر ممزق, و تركناك.
- صنعنا من أجل دحر قلوب رجالك ما لم تره الأعين من عدة و عتاد, فرأبت صدع الأفئدة الوجلة, فتصدع كل ما صنعناه, و تركناك.
- حاربت قسوتنا بجمال سمتك و أناقة لفظك؛ فارتبكت كل حساباتنا, و تركناك.
- سلبتنا مواقفنا, يوم رفع أبناؤك كلماتك فوق آطامنا, فتَّأَطُّمت منا الأفواه, و سكتت الألسنة, و زاد الليل تأَطُّمُاً و ظلمةً, و تركناك.
- قد مُنحنا قبضةً من تراب, تبث الحياة في الأجساد الميتة خواراً, يغيب العقول, فكشفت فسادها, و كانت قبضة ترابك نصرةً لذويك, حين شاهت وجوه أعدائهم, و فعلت هذا كمداً لنا, و تركناك.
- رُفِعَ الجبلُ فوق رؤوسنا رادعاً و كابحاً لجماحنا إن نحن أبينا الطاعة, و أبيت أنت أن تطبق الجبل على غوايتنا و أطبقت على صدرك تبعاتهم, فحملت جبال المشاق, و تفوقت جبالك على جبالنا قهراً لنا, و تركناك.
- كنا ننتظر غياب جسدك عنهم؛ لننفردَ بهم.
- ها قد حدث ما نريدُ يا فِلذةَ أكبادهم.
- اليوم جاء دورنا؛ لنُغِّيب عنهم رُوحَك.
- سوف نفعل ما لا يطيقه أصحابك.
- سنبسطُ لهم داثرَ الفراش متعةً و سعادةً.
- سنجعلهم يعرضون عن ترابك و رمالك الصامتة؛ ليفترشونها حريراً في باحات قصورهم.
- سنجعل و ليدك, المطيع الرابض علي فراش اليقظة؛ متصنتاً صياح فجر جديد؛ ليجدد دماء عروقه يقول: ها قد مللت ذلك, و سئمت تكاليف هذه الحياة؛ فيشرب من كأس النوم حتى الثمالة.
- سنجعله يستبدل اللؤلؤ و الياقوت بالجمرة, التي شقَّت في راحتيه جدولاً من كرامة الزمن البعيد.
- سنضرب في جسدك الواحد جُرحاً, لا يتداعى له سائر أبنائك.
- سوف نبث في قلوبهم ذعراً, كنت قد زرعته في قلوبنا نحن منذ زمن ليس بالبعيد.
- سنقتل ذلك الرجل الصامد في قلوب كل أبنائك بسلاح يتوغل داخله سماً بطيئاَ يفتت كل أوصالهم, فيتولاهم الكسل و الخذلان.
- سنسحق رجولتهم بشهواتهم.
- سنعطيهم – اليوم - ما وعدتهم -غداً -من أباريق و كأس من معين، فيصدعون بها و ينزفون؛ فتتلاقفهم حور عيننا و تلهج ألسنتهم بلغوٍ نستخلص منه ما نريد.
- اليوم قد عرفنا موطن الداء.
- و اليوم أيضا نصب عليهم يحموم الغواية، فيحنثوا بما عاهدوك.
- سنسلط فتياتك الكواعب علي فتيانك ذوي البأس الشديد؛ فينقلب البأس الشديد إلي يأس مديد و رذيلة مستديمة؛ فيصبحون كأنهم خشب مسندة, لا يفقهون شيئاً سوي لغة الغواني.
- سنحول بين نبراسك و منهاجهم, كلما استطعنا ذلك؛ فتموت تعاليمك في قلوبهم.
- سننفذ إلي دمائهم؛ لنستبدل المياه بها؛ فتموت في داخلهم نخوتك و شهامتك؛ فنقتل الأخ و ينظر إليه أخوه و يقول: مالي و ذلك الأمر ؟ حتى يتفتت الجسد الواحد و يصبح أشلاءً متناثرةً, نأكلها نحن و نحتسى بعدها كأس الشماتة.
- سنحطم جنودك البواسل بأقدامنا، و نحن و هم لا يشعرون.
- نعم لا يشعرون في غطة النوم لا يشعرون.
- غافلون إذن.
- هذا هو وقتنا المناسب, و فرصتنا السانحة؛ لنستيقظ من ثباتنا العميق.
- إلى متى سنركن إلى النوم و نخلد إليه.
- قد ولى زمن النوم, فلا وقت له الآن.
- هذا زمن اليقظة, و الانتباه.
- سحقاً لمن ينام في هذا الوقت.
- قد نامت عيونهم عنا, فهذا وقتنا نحن لنستيقظ.
ياله من نوم عميق قد أطبق على صدر حسين؛ لكن كابوس أحلامه المعتاد جعله يستيقظ من نومه, و استغراقه في الحوار مع نفسه, تاركاً عينه الناعسة في صراع مرير مع الأحلام المتوجسة، أما عينه الثانية، فكثيراً ما تكون مستيقظة, لا يخامرها النوم من شدة الحرص, فكل شيء عنده لابد و أن يسير في اتجاهين اتجاه صريح لعين و اتجاه غامــ ......!!! غير أن الحديث عن هذا الأمر يقلق حسيناً الذي يكره أن نذكره أو نذكر شيئاً عن سيرته إلا قصته التي يريدها هو.
فهو حسين ابن ؟؟؟ لا ندرى، و لد في شمال سوريا حيث بلاد الأناضول, في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي, و تربي في كنف عائلة مسكينة، أكل الشقاء و البؤس و ضيق الحال كل آمالها؛ فآثرت الانطواء, و النظر إلي نعماء الغير و رغدهم، نظرة رغبة و حقد و حسد.
لم يكن حسين راضياً عن حياة التنقل التي تعيشها أسرته, فقد أحس بعدم الاستقرار, و كثيراً ما كان يعاتب والده على هذا, و يثير غضبه:
- يا أبي أما آن لنا أن نستقر في بلدة واحدة, لقد مللت كثرة السفر, و أنت تصر على أن ترهق أبداننا بالسفر هنا و هناك.
- يا ولدي الذنب ليس ذنبي؛ فأنت تعرف أن طبيعة عملي تحتم علي السفر من وقت لآخر من بلد إلى بلد, و لن أستطيع الاستقرار في بلد واحد.
- يا أبتِ, لقد ضيعني هذا الأمر فلم أستطع أن أستقر في دراسة واحدة, و تشتت عقلي بسبب تلك الوظيفة التي تجعلنا مثل الرحالة الذي يجوب البلاد.
- لكنك درست لغاتٍ كثيرةً, و تعلمت علوماً مختلفة, و نلت من ذلك ما لم ينله شابٌ في سنك, فتراكمت الثقافة في قحف رأسك.
- كنت أريد أن ألتحق بالكلية الحربية و أصبح ضابطاً و بعدها أصبح سياسياً كبيراً و أنت تعلم أن ذلك هو حلمي الكبير.
- يا ولدي مالنا و الحربية, فليست لنا الآن, و ماذا ستفعل بعد دراستك في الحربية و أنا أنتقل من مكان لمكان, في أي بلد ستخدم؟
- دائماً ما تقول هذا الكلام الذي يؤلمني.
- يا ولدي لا يقودك طموحك إلى تحميل نفسك ما لا تطيق, و لقد نجحت في التجارة و أصبحت مرموقاًُ بين التجار.
- ماذا أفعل بالتجارة و ماذا أفعل بالنقود, و أنا لا أحصل على مكانة اجتماعية مرموقة.
- أنا أعرف إلى أي سبيل يتجه تفكيرك.
- عادت غيرتك على ابن الأمين الأكبر تستعر من جديد, و رغم حداثة سنك, و تفكيرك الذي يسبق عمرك بمراحل لا تزال تنافس من هو أكبر منك.
- لن أستريح حتى نحصل على القصر يا أبي, أو على الأقل نبني لنا قصراً مثله, يضاهيه في الشموخ و الهيبة, علي أن يكون مشيداً في قلب أراضيهم بل و داخل أعز أراضيهم عليهم و بذلك يستريح قلبي و ساعتها يخلد تفكيري إلى النوم.
- يا ولدي قلت لك إنهم لا يبيعون أراضيهم البعيدة التي لا قيمة لها لديهم, فكيف بك تريد أن تحصل على القصر الذي يمثل عزتهم و كرامتهم.
- سترى يا أبي أنني سأنجح في ذلك.
- أخشي عليك يا ولدي من طموحك الزائد.
- ألسنا أولى بأن نعيش في القصور؟
- لدينا نقود كثيرة و يمكنك أن تشتري القصر الذي تحب.
- أنا لا أحب سوى هذا القصر, و لسوف أشتريه, و إن لم أستطع سأهدمه على من فيه.
- لكأني بك قد جننت.
كان الأب يخشى على ولده الشاب, و قد حذره كثيراً من الاقتراب من أبناء القصر, لكن حسيناً ذلك الشاب اليافع المتطلع، كثيراً ما كان يتلصص أخبار ذلك القصر الغني الذي أصبح حديث كل أهل الأناضول و أوروبا - التي شرفت برسوخ قواعده بين أحضان ترابها - بل و ذاع صيته في بلاد العرب و العجم، و حتى أثرياء أوروبا و رجال أعمالها وقفوا جميعاً محيرين في شأنه، لكن حسيناً انفصل عن أبيه و اتجه إلى حيث يجد له بيتاً صغيراً بالقرب من القصر, و بحيلة ماكرة استطاع أن يدخل في خدمة أبنائه, حيث منحه القائمون عليه بيتاً صغيراً متهالك البنيان، غير أنه يصلح لأن يعيش فيه مع أولاده, كما أنه جمع من أقاربه و ذويه أناساً كثيرين ممن أدخلهم في خدمة القصر, و جاورت بيوتهم الصغيرة جدران القصر العريق.
كانت بيوتهم الصغيرة المجاورة لبناء القصر العريق تشبه بيوت العناكب في ضعفها و هوان أعمدتها الخشبية, و تبدو كما لو كانت بيوت جرذان لتهتك جدرانها, و لكنها سرعان ما تزايدت و تزايد سكانها, و عظم شأنهم, و كان سكان القصر يفرحون كلما ازدادت أعدادهم, فقد كانوا يقومون على خدمتهم و رعاية مصالحهم, و ظن أهل القصر أن كثرتهم أراحتهم من القيام بخدمة أنفسهم بأنفسهم, أو شراء ما يحتاجون بأنفسهم, و كانوا يقومون على تلك الأراضي الشاسعة التي يمتلكونها, فوجدوا فيهم خير رعاة للأراضي التي تموج بالخيرات
أما بنيان القصر, فقد كان رائعة من روائع الزمن, إذ بدا كل عمود من أعمدته الخمسة ضخماً, كأنه يحمل الجبال فوقه, و قد ارتكزت على أرجل مرخمة, مرصعة, قد صُورت فيها أشكالٌ مختلفةٌ، يتصل بهاؤها بمن عاشوا في القصر, و على واجهة القصر, كانت الزخارف التي أبدعها الفنانون تأخذ العقول من جمال دقتها, و فوق القصر قبة من الرصاص الذي يصرع حبات المطر أن تستقر عليها؛ فتصيبها بالتهالك, و قد لونت باللون الأخضر الذي لا يتأثر بذلك المطر. و فوق القبة رفعت أذرع حديدية ضخمة؛ لتحمل القناديل المغطاة بغطاء رصاصي آخر حتى لا تتأثر بتقلبات الجو, و لو ابتعد الناظر عنها و راقبها من فوق جبل لاستبان له شكل القصر كأن قبته رأس أسد قد هيمن بقدميه و جسده على فريسة له و رفع رأسه يرقب من يتجرأ على أن يشاركه غنيمته, و كد افتراسه.
أما الأراضي الشاسعة التي تحيط بالقصر, فقد كستها أشجار الفاكهة المتنوعة بين صيفية و شتوية, و قد خصص لها طرق مختلفة يستطيع أهل القصر من خلالها المرور بين جمال هذه الحديقة الغناء, و بين أشجار هذه الحديقة و ضعت مقاعد خشبية منقوش عليها رسومات فواكه مختلفة حسب نوع الفاكهة التي تجاورها, كما خصصت أماكن لهو و تسلية لأطفال القصر, خصصت لها أراجيح مختلفة أشكالها, و على أبعاد مختلفة خصصت حظائر للخيل العربية الأصيلة و حظائر أخرى للبغال و كلاب الحراسة, و أما بقية الحظائر؛ فقد خصصت للخراف و الأبقار و الدواجن, التي كان الخدم يذبحونها و يعدونها طعاماً لأهل القصر, و قد أثار جمال هذا القصر غبطة الحاسدين أمثال حسين, الذي كان منبهراً بروعة البناء و هيبة المكان.
ظل حسين يحلم باليوم الذي تتبدل فيه الأماكن, يحلم باليوم الذي يترك فيه هذا البيت الفقير الذي يمتلئ بالجرذان التي تقلق نومه و يصعد إلى ذلك القصر العالي، حيث الفراش الداثر, الواثر, و النعيم المديد الذي يراه كل يوم من وراء حجب القصر المحكم:
- إنه يحلم باليوم الذي يدمر فيه كيان هذا القصر المتين, و يخترق تماسكه.
- يحلم باليوم الذي يعتلى فيه صوت ضباحه زئير ذلك الأسد المخيف.
- يحلم باليوم الذي يقتل فيه جبن نفسه, التي تخشى حتى أن يتصعد زفيرها أمام هيبة و وقار أبناء الأمين رب هذا القصر و يواجههم بعد أن يشعر و لو لمرة واحدة بتهاوي تماسكهم و وحدتهم.
- يحلم باليوم الذي يتخلى فيه الأبناء عن تركتهم التي لا تحصى, تلك التركة التي تحتوي على أراضٍ يصعب حصرها, و التي تغطي الدنيا شرقاً و غرباً، و لكنه عبد من عبيدهم أو خادم من خدمهم الكثيرين، رغم ما يكنزه من أموال, و هو يصر على أن يكون كذلك, فقد دعته سماحتهم المعتادة ذات مرة إلي الغداء معهم, فأبي ذلك و أصر على عناده و كفره، فتركوه، لأنهم لا يكرهون أحداً على ذلك.
- إنه لا يهتم بمجرد لقيمات يقمن صلبه، فهذا ليس منهاجه.
- إنه يبحث عن النعيم, الذي لا يزول أبداً؛ فهو طامع، طامح لا في ثروة و مال؛ فإنه يمتلك تحت فراشه النتن كثيراً من السبائك الذهبية التي يبخل بها حتى على نفسه؛ انتظاراً لليوم الموعود، تلك السبائك التي جمعها من كل مكان بكل الطرق المشروعة و غير المشروعة.
- إنه يبحث عن ذلك المجد الذي يتمثل في الاستيلاء على هذا القصر الكبير بعد أن يمحو قبته، ذروة سنامه، فيستطيع بذلك أن يقضى على من فيه، نعم يقضى على من فيه؛ فهو يعلم تمام العلم أن هذه الذروة هي السبب في قهره و قهر أبيه الذي ينتقل من بلد إلى آخر و لا يستقر به المقام.
- إنه يحار في كيفية هدم تلك القبة؛ فهي سبب شموخهم و رفعتهم, و هي علامة بارزة في تاريخهم الطويل، و هي التي تفرق بينهم و بينه؛ فليس له مثلها، و هو يخافها أيما خوفٍ، و لا يقنع بتلك الحمائم التي تجعلها بيضاءً لا تدمي إلا إذا اقتضى الأمر ذلك.
- إنه يحلم باليوم الذي يشتري فيه الأرض كل الأرض و لو كلفه ذلك كل سبائك الأرض؛ فهو يستطيع امتلاكها و لكنه لا يستطيع أن يمتلك تلك الأرض؛ لأنه يعلم تمام العلم أن أبناء الأمين لا يبيعون الأرض أو العرض و لو بكنوز الدنيا.
- فكيف له أن يشتريها؟!
- تلك هي قضيته.
كانت هذه الكلمات تنطلق من فيه والد حسين الذي كان يتتبع أخبار ولده من خلال الخطابات اليومية التي كان يرسلها له, و قد أراد أن يفسر لأم حسين سبب انفصاله عنهم, بعد أن سألته باكية:
- لماذا تركنا ولدنا؟
هذه هي قضية الأرض الموعودة- كما يحلو له أن يسميها- تلك القضية التي أعيت فكره و جعلته يفكر ملياً، تارة و يتهور تارة أخري، حتى إنه تهور ذات يوم و طلب من أبناء الأمين أن يعطوه قطعة أرض صغيرة يتكسب منها، فما كان منهم إلا أن حبسوه بغرفة مظلمة بالقصر, و كادوا أن يفتكوا به لولا أنه طلب منهم السماح و العفو و وعدهم بألا يعود إلى ذلك مرة أخرى، و في هذه المرة تنازل عن منهاجه, و تناول معهم الغداء بيمينه و ضاحكهم و قاسمهم السرور و السعادة و أظهر لهم الولاء و الطاعة و دخل- بعد أن تناول طعامهم- حمامهم و سلخ عن جلده النتن سنوات طوال من النجاسة التي تروق له, و يعتز بها، لكنه لم يبلل جوفه بقطرة ماء واحدة و أضمر في قلبه ماضيه الملتهب بداخله, و الذي لا يفارقه ليل نهار، فهو يشعر تجاههم بالبغض و الحنق و لكنه يشعر بالضعف و القهر، و حيلة الضعيف الحاقد أن يتمسكن حتى يتمكن، نعم حيلة الضعيف الماكر أن يتمسكن حتى يتمكن؛ لقد تجاورت أفكاره و أفكارهم و راح يستلين جانب ابن الأمين الأكبر, حيث مد يده إليه بتفاحة و هو يقول له:
- يا سيدي أنا ما طلبت هذه الأرض لكي أقتطع منكم قطعة تعتزون بها.
- و لماذا طلبتها إذن؟!
- كنت أريد أن أشارككم و استقر هنا فوجدت أن الأرض سبيلي الوحيد للاستقرار؛ فبالأرض ينعم أولادي و أطمئن على مستقبلهم.
- فلتعلم يا هذا أننا لا نفرط في شبر من أراضينا.
- أعلم يا سيدي.
- لقد أجمع أهل القصر على طردك, و لكنني لم أوافقهم, و فضلت أن أمنحك فرصة أخرى لكي تصحح ما وقعت فيه من خطأ.
- لن أفعل هذا مرة أخرى يا سيدي, صدقني.
ثم أكب علي يديه يقبلهما, و يستميحه عذراً.
هنالك بدأ حسين يفكر و يفكر كيف له أن يتغلب علي ذلك القصر, و كيف له أن يخترق تماسكه, و يفوز بالنيل منه, و بينما هو كذلك, إذ جاءه هاجس جعله يقفز ملء قدرته إلى أعلى و كأنه رأى حلمه يتصاعد إلي السماء، فأراد أن يلحق به مؤيداً و مؤازراً, فقد وسوس إليه شيطانه:
- اعمل على أن تقلب ما في القصر رأساً على عقب؛ فيصبح أعلاه أدناه و أدناه أعلاه، و ما ذلك إلا بصوت الفتنة.
- الفتنة!
- نعم الفتنة في القصر نعم.
- كيف أفعل ذلك؟
- فرق تسد.
- و في هذه اللحظة تستطيع أن تهدم هذا القصر.
- تستطيع أن تسقط تلك القبة العالية الشمَّاء فتهوي في أرضٍ سحيقة و بعد ذلك تستطيع أن تسقط أعمدة القصر الخمسة، عموداً تلو الآخر؛ فيتهاوى القصر علي من فيه؛ فما أن تسقط القبة حتى يغيب عن أبناء الأمين و حفدتهم منهاجهم في التوسع في أراضيهم.
- و ماذا بعد؟
- يبيعون رباط خيولهم التي دوي صهيلها في أذن الحاقدين رعباً و فزعاً، و ما أن تسقط أعمدة القصر الخمسة حتى يضيع منهم حرصهم على تقاليدهم و عاداتهم؛ فينسون بكورهم, الذي يجعلهم يحترقون في نار الحرقة و لهيب الشوق إلي الكسب العظيم الذي يميزهم عنا نحن المساكين، و ينسون دأبهم كل يوم في الأرض خمس مرات.
- خمس مرات يخرجون فيها إلى عملهم الأكبر يجعلون بها الأرض تضئ خضرة و نضارة.
- خمس مرات يجعلون بها الأرض تنبت أطيب النباتات و تخرج أشذى الروائح.
- خمس مرات يجعلون بها الأرض تشتاق إليهم.
- خمس مرات يجعلون بها الأرض تقتل كل ما فيها من بغض و كره و رذيلة.
- خمس مرات يصبحون بها أحسن الناس و أطيبهم.
- خمس مرات تجعلهم يتفوقون على كل الأرض.
- خمس مرات تجعلهم يتغلبون بها علينا نحن أبناء الصفوة.
نعم كنا أبناء الصفوة، نعم يجب إسقاط هذه الأعمدة هنالك ينسى أبناء القصر بعضهم البعض و يموت الأخ جوعاً على مرأى و مسمع من أخيه، و ينسون كذلك دربتهم على الصبر، و ينسون كذلك تجمعهم المهيب الذي ينتحب فيه الشيطان حقداً عليهم.
هنالك خرج حسين من القصر في ثوب جديد و شكل مختلف ينتوى فعل أشياء كثيرة، و يدور بِخَلَدِهِ فكرٌ عميقٌ، فقد قرر أن يخدع أبناء القصر؛ ليهوى القصر على رؤوس من فيه؛ ثم يأتي هو ليحتله, و يعيد بناءه من جديد و يصبح المرؤوس رئيساً و الرئيس مرؤوساً.
و بينما كان حسين في طريقه إلى بيته, يفكر في خطته الجديدة و لباسه الجديد القشيب الذي سوف يرتديه, ليغرر بأنظار أبناء القصر, و بينما هو يمشي على أراضيهم و بين حدائقهم الغناء و صوت صياح الديكة يطارد أذنيه بعد أن داهمه فجر يوم جديد؛فقد قضى ليلته ساهراً ساهداً، إذ حانت منه التفاتة إلى أحد أبناء الأمين, و قد عرف أنه عبدالحميد الابن الأكبر, و عجب لحاله ما الذي أتى به إلى الحديقة فقد تركه هناك في القصر, ثم تذكر أنه قضى الليل كله يجوب أراضي القصر و هو ينتزع المكر من جوف ظلمة الليل.
كان عبدالحميد جالساً على أريكة من أرائك القصر الكثيرة يكاد النوم يصرعه، لولا أصوت الديكة التي نبهت حواسه لميقات يوم جديد، و ما أن رآه حسين حتى توارى بين أغصان الشجر مترقباً إياه, و هو يملأ الأرض صلاحاً و فلاحاً بعد أن لامست جبهته ترابها و ظل كذلك حتى أنهى دأبه ثم عاد إلى أريكته, ليملأها نشاطاً و حيوية، و في يده عنقود من الكرم أصفي من حبات اللؤلؤ و أزهى من الزمرد لوناً يكاد بريقه يخطف بصر حسين الذي جعل يتخيل ما يدور في قحف رأس ابن الأمين من تأمل جعله يرفع رأسه إلى السماء و كأنه يستحضر واقعة قديمة من وقائع الزمن البعيد كانت, و لا زالت خالدة في النفوس يتذكر ذلك العنقود الذي جاء يضمد جراح صراع مرير بين ليل طويل يأبى الإدبار و صبح جميل يحاول أن يتنفس, لقد أرهق هذا الصراع صاحبه, الذي ما كان ليرضى بالمكافأة التي مُنحها؛ فحبات العنقود الصغيرة كانت أثمن عنده من جبل الذهب الذي ربما كان سيسعده هو و أبناءه- أبناء القصر- قرونا طويلة, إنها مفاضلة غريبة جعلته يترك ذلك الجبل الذهبي من أجل عنقود من كرمة صغيرة, فروعها في السماء و جذورها ضاربة في أعماق الأرض استطاع أن يرويها بأعذب كلمات الحب و الصفاء، و هيهات هيهات أن يستبدل الذهب بشجرة الكرم.
كيف له أن يقهر عدوه بسلاح الإبادة و الدمار؟!
و هو الذي لا يعرف الطعن من الخلف و لا يعرف الخراب....
كيف له أن يستن في بنيه سنة الهلاك؟!
كيف له أن يقتلع الشجر الأخضر من جذور الخير و النماء؟!
كيف له أن يهلك الطفل الرضيع الآمن في حجر أمه؟!
كيف له أن يسترق الطمأنينة من عين الشيخ العجوز؟!
فيفزع على حين غفلة....
كيف له أن يكون سبباً في اقتحام الموت خدر المرأة المحتجبة في بيت زوجها؟!
كيف له أن يسبب الذعر, و الخوف لجموع الأنعام المسخرة؟!
إذاً لطلب منه أن يطبق الأخشبين، على كل الظلم و الإجحاف في الأرض، و لأراح نفسه وأبناءه من هم و غم يعتريهم عبر أزمان مديدة، لكنها آداب المجاهدة, يرسيها فيهم و يأبى عليهم أن ينقادوا وراء هفوات الطغاة الجهلة، أرباب الرذيلة، لقد عاد الابن المسكين بذاكرته و هو يعتصر الزمان في رأسه إلى حيث وفاة الجد الملهم, الذي زرع بيديه أول حجارة في جدران القصر, لقد تذكر هذا اليوم العصيب, و تذكر ذلك الحوار المرير الذي دار بين الأخوة:
-........ ما وفَّت آذانكم.
- ما وعت مسامعكم.
- بل شبه لكم.
- إنه حي.......... نعم حي.
- يا أهل هذا البلد, يا رجال.
- لئن قال أحدكم إنه مات, لأدقن عنقه.
تلك كلماتٌ تدفقت من فم عمي فاروق دون وعي, أما عمي عثمان, فقد وقف و قد بهت من شدة الصدمة، و لسانه خرس لا حراك له، و الكل في ذهول تام, يتلاطم تفكيره بأمواج الفاجعة.
و الله ما خلصنا من هذا الأمر سوي عمي صادق الذي قال في سكون و هدوء:
- يا إخواني.
- يا أحبائي.
- خلوا عنكم هذا الجزع، و لا تجلدوا النفس كمداً.
- و اعلموا أن الموت حق.
- و لئن مات أخوكم الأكبر, فأبداً لن تموت كلماته و وصاياه، و سيظل هذا القصر الشامخ سامقاً, تخاطب قبته السماء في عظمتها، و النجوم في بهائها.
- يا إخواني, أوليس هو معلمنا؟!
- أولم يأمركم أن تتثبتوا و تأخذوا بوصاياه؟!
- يا فاروق.
- يا أيها الجزع.
- يا عنفوان الشباب.
- يا من أيدك ملهمنا و موجدنا بقولك "فتبارك.........."
- دع عنك نزق الشباب و رعونته.
- و تذكر " و ما................"
- يا قبيلة الطهر و الكرامة............انظروا إلى جميع القبائل و أحوالها.
-هل توجد قبيلة خير من قبيلتنا؟!
- لقد صارت قبيلتنا كبيرة كبحر بلا شطئان.
- هذه قبيلة الخير.
- يا علي يا عثمان يا عبيدة يا عامر يا..............
- أنتم بذلك تريدون هدم ذلك القصر، هل نسيتم كيف كان معلمكم؟!
- هل نسيتم سماحته؟!
- أَوَلَمْ يسأل عن أحد أعدائنا في بيته يوم تكاسل عن أذيته في يوم من الأيام؟!
- أَوَلَمْ يؤد دينه إلى أحدهم و كان قد آذاه من قبل؟!
- أَوَلَمْ يجعل الناس يدخلون هذا القصر و يزيحون عنهم رذائل أفعالهم بسماحته؟!
- أَوَلَمْ ينتصر للضعيف و المسكين؟!
- أَوَلَمْ يأمر رجالنا و هم يتحاربون مع القبائل الأخرى: ألا يقطعوا شجراً أو يقتلوا شيخاً أو امرأة أو طفلاً؟!
- هل نسيتم ما كان من هبات و نعم أُعطيها معلمكم؟!
- أَوَلَمْ يصبح يوماً من الأيام قائداً, و زعيماً لكل زعماء القبائل و معلميها؟!
- ألا يدل ذلك على أننا معلمو هذه القبائل؟! و لكن بتعاليمه و مبادئه و أخلاقه و حكمته و سماحته، لا بالسلاح و الغلظة و القسوة و الدمار.
هنالك انخرط ابن الأمين في البكاء و جعل يمهمه بتناهيد و هو يجول بعينيه يميناً و يساراً, و كأنه يخشى أن تقتحمه الأنظار, و رفع يديه إلى السماء رافعا صوت البكاء و التوسل و هو يقول:
- يا إلهي, إذا كنا قد تخلينا عن مبادئ هذا القصر و نظامه.
- إذا كنا قد دفعنا الحب و عصفنا به خارج القصر.
- إذا كنا قد نصبنا من الشيطان حكماً بيننا.
- إذا كنا قد ابتعنا الشر بكل كنوز القصر؛ لنرفع النفس الأمارة بالسوء على عرش قلوبنا.
- إذا كنا قد استحللنا أجساد الرذيلة سويعات من المرح و المتعة.
- إذا كنا قد تركنا إخواننا يموتون تحت أقدام الظلم.
- إذا كنا قد سكتنا عن الحق و أيدنا الباطل.
- إذا كنا قد بدأنا الرذيلة.
- إذا كنا قد بدأنا نحتسي خمر المهانة.
- إذا كنا قد بدأنا نألف المعصية.
- إذا كنا لا نشتم للخيانة رائحة.
- فهل يا إلهي سيثبت هذا القصر في مكانه.
- هل ستحميه بعد كل هذا؟؟؟؟
و بينما هو كذلك, و قد غطت رأسه أشعة الشمس, فارتدت للناظر كأنها سبائك من ذهب؛ إذ فاجأه أخوه كمال شاباً يعز الزمان أن يجود بمثل وجاهته و نضارة وجهه, و ما كاد يسلم عليه حتى أفزعه بقوله:
- أنت هنا و أنا أبحث عنك في كل مكان؟
فرد عليه عبدالحميد في سكون و هدوء:
- ماذا هنالك يا أخي, أهناك ما يقلق, أم أنك تريد كالعادة أن تتحدث عن موضوع التقسيم الذي لطالما أرهقتني بالإلحاح في طلبه؟
- و هل هناك موضوع غيره؟
- هات ما عندك.
- كم قلت لك و لإخوتك مراراً و تكراراً أنني لا أريد أن أبقى هنا.
- و إلى أين تريد أن تذهب؟
- أنا أريد أن أبيع كل ما أملك هنا في استانبول و أتجه إلى أوروبا لكي أدرس اللغة الفرنسية و الإنجليزية هناك.
- و لماذا لا تفعل هذا في استانبول كلنا تعلم لغات كثيرة و هو في قلب استانبول.
- مالي و استانبول و عيشتها؟ و حتى لو مكثت فيها؛ فلسوف أبيع كل ما يخصني من عقارات لا طائل منها سوى الهم و الغم و استمتع بنقودها.
- لنجتمع بعد صلاة العشاء إن شاء الله و نحسم الأمر.
- لعلك تصدق في هذه المرة.
ثم انطلق و هو يتمتم بكلمات غير مفهومة.
و ما أن تركه؛ حتى انخرط ابن الأمين مرة أخرى في بكاءٍ بعين غزيرة, و الحزن قد خيم على وجهه الطيب المتلألئ من شدة بياضه, و ظل يحاور نفسه قائلاً:
- ما الذي حدث لنا؟!
- لماذا تغيرنا؟
- كنا نأكل طعام الصبر, و نشرب من كأس الثبات و العزيمة, على مائدة الحب و الإخاء, و اليوم نأكل على كل الموائد, و الفرقة حالنا, و الضعف دأبنا.
- ما عدنا نجمع فتات الطعام المتساقطة من طبق إخائنا الواحد, فتعددت أطباقنا, و انهمرت فتات دموعنا في طريق الإسراف و البذخ.
- كان الأخ الأكبر منا أباً يحارب شيطان الفرقة.
- كانت الرعونة عدواً لنا تخشى أن تطيف بحرمة منزلنا الكبير.
- بالله يا جدي يا أيها الأمين قل لي:
- ماذا نفعل و قد داهمت الفرقة بيتنا الكبير؟
- ماذا نفعل و أنا أرى قصرك الكبير يتهاوي؟
- لماذا يتهاوى؟
- لماذا؟
و بينما هو في بكاء شديد, إذ غلبه النعاس, و قد رأي في منامه أنه, و إخوته يقفون أمام بحر لجي كبير, و فجأة ينزلون إلى هذا البحر واحداً تلو الآخر, حتى لا يبقى منهم سواه, و هو يصرخ فيهم:
- ارجعوا!
- ارجعوا!
و إذ بالأمواج المتلاطمة تلقفهم واحداً تلو الآخر, ثم تلاحقه و هو يقف على بر ذلك البحر العظيم و لا تتركه حتى يدخل القصر, و ما تزال هذه الأمواج تقتحم القصر حتى ترتد عنه و قد هوت قبته الشامخة, فيستيقظ من نومه مذعوراً, يتمنى أن لو كان هذا الحلم حلماً؛ ثم ينظر إلى تلك الأراضي الشاسعة التي تطمرها الخيرات و التي تجمل ذلك القصر, و كأن لسان حاله يقول:
- هل ينتهي هذا كله؟
كان هذا الحوار الذي حدث بين الأخوين على مسمع و مرأى من حسين المتربص, الذي يسترق السمع من بعيد؛ و قد أحدث ذلك في نفسه فرحاً شديداً, فلم يكن يصدق أن ثمة خصومة تحدث بين أبناء الأمين, كان يعرك جفنيه, و قد فغر فاه مشدوهاً بما يرى, فرحاً, و كأنه قد وجد الباب الذي سيدخل منه القصر.
و بعد صلاة العشاء كان الخطب الجليل الذي زعزع الأبناء جميعاً, و الذي سُحِقَ فيه حلم ابن الأمين الأكبر, فقد اجتمع الكل علي مائدة العشاء, لا لكي يتقاسموا الطعام حباً و مودةً, كما تعودوا في سابق عهدهم, بل ليتقاسموا النزاع فيما بينهم, و لكي تنفجر أصداغهم من شدة ذلك الصخب الذي أحدثته أصواتهم المتعالية من أفواه رعنائهم, و يالها من أصوات كانوا يرهفون بها, فتت في عضد ذلك الرباط المتين, لم تعد تلك القصعة التي تجمع قلوبهم على رأي واحد موجودة؛ بل إن نكوصهم في عهودهم بأن يعتصموا بحبل واحد جعل شياطينهم تتداعى على تلك القصعة؛ فأغلب جموع الأبناء تصر على تقسيم هذا القصر, بل و تصر على تقسيم كل تركة الجد.
كان جدهم رجلاً صالحاً, بل إن الصلاح كان لا يكتمل إلا به, كان رجلاً ثرياً ذاع صيته شرقاً و غرباً, فهو عالمٌ لا يضاهيه علماء جيل كامل بكل عبقرياتهم, و هو ذكي فطن يعز الزمان أن يأتي بمثله, و هو غيورٌ, على خلق, لا يرضى إلا الصلاح و الاستقامة, كان كما الدر المكنون في شكل اللبنة المتلألئة الموضوعة فوق قصر نوراني في أروع هندسة قدسية, لا يستطيع بشرٌ كائناً من كان أن يصنعها في مثل هذا الصنيع, كان لسانه يلهج بما تنوء بحمله الجبال من كلمات ثقال الوزن محببة إلى النفوس, عظيمة معانيها, لقد استطاع هذا الرجل الذي كان يسكن قلب الصحراء, حيث الجزيرة العربية أن يكون لأحفاده ثروة هائلة, حتى لقد منحهم الكثير من الأراضي في بلاد مختلفة, و قد بنى لهم في كل بلدٍ قصراً, في الجزيرة العربية و العراق و الشام و مصر و المغرب العربي و إيران و الهند و أوروبا حتى استقر المقام بأحفاده في استانبول.
و من هذه المدينة العريقة كان الأحفاد يخرجون؛ لتفقد أحوال أراضيهم, و قصورهم البعيدة و كانوا يعيشون في حب و تآلف و تعاون, يُحسدون عليه, لولا هذه البيوت الصغيرة التي انتصبت إلى جوار قصرهم العريق, و التي كان أهلها يحملون على أكتافهم المتهالكة تاريخاً طويلاً من الحقد لأبناء ذلك الرجل الصالح, و مع مرور الأيام و السنين كانت أحقادهم تزداد مع ازدياد رقعة أراضيهم و مع تفتح ورود ربيعهم تراهم يشتمون أزاهيرها روائح سموم تصعق أحلامهم.
لقد كانت تلك الفرقة التي دبت بين الأبناء فرصة سانحة لذلك الثعلب الماكر حسين لأن يقتحم ذلك الرباط المتين, و يعيد بناء عائلته المشتتة في كل بقاع الأرض, فراح يجمع أجياف أحقادهم من كل مكان على وجه هذه البسيطة, لكنه كان قد أعد العدة للمكر و الكيد لأبناء ذلك الرجل الصالح.
انطلق حسين يطوي الأرض طياً, و ما أن وصل إلي بيته الفقير الضعيف, حتى جمع كل عائلته، و كان قد أرسل في طلب والده للحضور إليه, و كذلك اجتمع له الأخوة والأخوات و الزوجة، و أبناء العمومة, و كل الأقارب, الذين جمعهم من بيوتهم الصغيرة الضعيفة, و كذلك الأصدقاء, الكل أتي ليستمع إلي حسين, الذي أصبح منذ ذلك اليوم صاحب الكلمة العليا بين أهله و أقاربه و خلانه, و قص عليهم ما حدث و طلب منهم أن يأتوا معه إلى القصر ليبايعوا أبناء القصر على الطاعة و الولاء، فما كان من الجميع إلا أن ثاروا عليه و كادوا أن يتركوه و ينفضوا عنه، لولا أنه بادرهم قائلاً:
- هي الخدعة، هي المداهنة و المراءاة.
- هل تظنون أنني أصبحت خائناً لقضيتنا؟!
- لا لم يحدث ذلك, لكنني قررت أن أستخدم سلاحاً آخر أتغلب به علي القصر و من به.
فبادره أحدهم قائلاً:
- و ما هي خطتك؟!
- و كيف لنا أن نحصل على القصر؟!
- لقد أتيت بنا إلى هنا لكي نصبح عبيداً لعبدالحميد, نخدمه و لا نأخذ من ورائه منفعة, فقد رفض أن يبيع لنا قطعة أرض نبني عليها بناية كرامتنا و عزتنا.
- ألسنا عائلة مثلهم, يحق لها أن تبني القصر الذي تحتفي فيه بمجدها و كرامتها؟!
- و الآن تريدنا أن نبايع و نقبل الأيادي.
- إنني أشتاق إلي اليوم الذي أطرد فيه هؤلاء من القصر، إلي متي سنظل في هذا الذل وذلك الهوان؟
فرد عليه حسين قائلا:
- يا أبله, ما على هذه اللهجة المعادية ربينا, لقد تعلمنا من أجدادنا أن نكسب القضايا بالخدعة و المداهنة, و كل هذا يحتاج إلى صبر شديد.
- لو أننا ذهبنا إلى عبدالحميد الآن و قبلنا يديه, سوف ننال وده و نكسب فضله.
- و ماذا لو غدر بنا بعد أن يرى كثرتنا و تجمعنا؟!
- لا عبدالحميد لا يفعل ذلك, و لا أحد يستطيع أن يغمزه في مروءته, و شهامته؛ فقد اشتهر بحسن المعاملة, و هو ليس خواناً, خاصة أننا سنكون في قصره.
- لنرى.
- لكنني أود أن نتعامل معه بأسماء غير حقيقية.
- لماذا؟
- هذا من باب الاحتياط.
- فتستطيع أنت على سبيل المثال أن تسمي نفسك علياً.
- تغيير الأسماء هو أهم شيء في خطتنا, حتى نستطيع أن نذوب و ننصهر في داخل بوتقة جموع أبناء الأمين, فلا يستطيعون التمييز بين أبنائهم و أبنائنا, و ساعتها يكون مكرنا و نتمكن من الحصول على الأرض التي نريد.
- كما أن الولاء و الطاعة للقصر من الأشياء المهمة أيضاً.
- هل أنا الذي يعلمكم كيف تدبرون هذا الأمر يا سادة؟!
- لقد قمتم بعرض المسرحيات في كثير من البلدان.
- و ما علاقة المسرح بالحقيقة؟
- أو ليست الدنيا مسرحاً كبيراً؟!
- لقد فهمنا ما تقصده.
- حسناً, لنتفق على وضع أسمائنا الجديدة في كتاب سري, و نشرع ذلك الأمر في أولادنا حتى يعرفون الطريقة, فينتهجون نفس النهج.
- دع أمر الكتاب هذا حتى نفرغ من أمر عبدالحميد.
- حسنا يا سادة, علينا أن نرتب الكلام الذي سوف نقوله له حتى لا تفسد خططنا.
- و لكن قبل كل هذا ماذا عن الأرض التي نريد أن نشتريها, هل نجدد طلبنا لعبدالحميد؟
- لا يمكن أن نفعل ذلك, فقد كادوا أن يفتكوا بي.
- إذن ما جدوى أن نقدم له فروض الطاعة إذا كنا لن نحصل منه على شيء؟!
تقدم والد حسين من الجمع و قال:
- لا تجددوا الطلب, أنا الذي سأفعل هذا بصفتي غير معروف لديه و يمكنكم أن تقولوا: هذا صديقنا الصحفي, أو المحامي, قد أتى من أوروبا - النمسا أو المجر مثلاً - فأسرة عبدالحميد لن تخسر علاقتها مع رجال أعمال النمسا أو المجر, لمجرد كلمات تقال, و لن يتجرأ على أن يعتدي عليًّ.
- تلك فكرة جيدة يا أبتاه.
و ظل الحوار محتدماً بين حسين و ذويه، حتى اقتنعوا جميعاً بالخطة.
و بعد ليلة طويلة تقاسم فيها حسين و رفاقه الصبر على مرور الوقت, و بعد شروق شمس يوم جديد انطلق الجميع إلى القصر و قدموا فروض الطاعة و الولاء لأبناء القصر, و لما أن جاء وقت الغداء, أصر عبدالحميد على أن يقدم لهم طعاماً شهياً, و كان حسين يتسول كلمات الاعتذار عن هذه المائدة, و باطنه يرغب في تعميق أواصر العلاقة, فتعلل بأنهم خدمهم, حيث قال:
- يا سيدي كيف للخادم أن يجالس سيده, و ولي نعمته؟!
- لا تقل هذا يا رجل, فقد جئتنا ضيفاً, لا خادماً كما أن ضيوفك هم ضيوفنا, لكنك لم تعرفني بالضيوف, فهلا فعلت ذلك.
- بالطبع يا سيدي.
ثم انطلق إلى أبيه يأخذ بيده متجهاً إلى عبدالحميد قائلاً:
- هذا هو السيد إدوارد إنه محامٍ يعمل بالصحافة في النمسا, و هو صديق لنا.
ثم استدار بوجهه ناحية عبدالحميد و قال:
- و هذا هو السيد عبدالحميد, صاحب هذا القصر, و عين من أعيان استانبول, و هو كذلك رجل أعمال.
رحب عبدالحميد بالضيوف, و أمر الخادم أن يهتم بهم, و استمرت الجلسة ساعات طويلة, و إدوارد يراقب عبدالحميد ليتحين الفرصة لتجديد الطلب, حتى رآه يتجه نحو شرفة القصر, فتبعه و هو يناديه:
- يا سيد عبدالحميد.
استدار عبدالحميد بظهره و ابتسم في وجه ادوارد و أخذ بيده و هو يسير ناحية الشرفة, ثم قال:
- مرني, ألديك مسألة يا سيد إدوارد.
- نعم, كنت أريد أن أتحدث معك في موضوع خاص بهؤلاء الناس.
ثم امتعض في حديثه و كأنه يزرع المهابة في قلب عبدالحميد, و الكبر يعلو نبرة صوته, حتى رد عليه عبدالحميد قائلاً:
- لم يمر يوم واحد حتى يصبح بيننا ما يمكن أن يكون خاصاً.
- لكنك يجب أن تستمع لمطالب هؤلاء الذين يتولون شؤون أرضك و أموالك.
- أراك تمارس المحاماة في بيتي!
- و هل مطالبة هؤلاء بحقوقهم مظلمة ترد؟
- و ما هي حقوقهم؟!
- إن من حقهم أن يكون لهم قطعة أرض يبنون عليها بيتاً كبيراً يجمعهم في المواسم و الأعياد و المناسبات.
- و هل يجب أن تقتطع هذه الأرض من أرضي أنا, أشعر أنك محامٍ خائب, لا تحسن الحوار مع الناس.
- إذا كنت خائباً, فهم يرونك رجلاً صلفاً ظالماً متغطرساً.
لم يستطع إدوارد أن يتقي عصير الليمون الذي ألقاه عبدالحميد في وجهه, و هو أسف غضبان على أسلوب هذا الرجل, حتى هرول الحاضرون إليهما و أدرك حسين أن زمام الأمور سينفلت من يديه, فهجم على والده هجوم المعنف, و هو يقول:
- ما الذي تفعله يا هذا؟
- أجئتنا ضيفاً أم جئتنا معكراً لصفونا؟
و لزم ظهر أبيه يدفعه إلى خارج القصر, حتى غاب عن أنظار الحضور, أما هو فقد عاد مهرولاً يسترضي عبدالحميد, و يؤكد له أنهم لم يطلبوا منه أن يتحدث عن هذا الأمر و أن أحداً لا يعرف من الذي قص عليه هذه القصة, و ما زال بعبدالحميد حتى لملم شتات الأمر, و نال عفوه و مغفرته, أما والده, فقد أقسم أن يترك استانبول و يعود من حيث أتى و لم يقض ما تبقى من ساعات الليل, حتى رحل إلى غير رجعة.
و عادت المياه إلى مجاريها و سمح لحسين و أتباعه بالتصرف في إدارة شؤون بعض أراضى العائلة, و لكن تحت سيطرة القصر, و بدأ حسين و رفاقه في التغلغل داخل أراضى أبناء الأمين يستحلون حرامها, و يحرمون حلالها دون علم القصر انتظاراً لليوم الموعود، اليوم الذي يحصلون فيه على قطعة أرض خاصة بهم و ينطلقون منها إلي بقية الأراضي، غير أنهم شعروا بالأسى و الحزن؛ فقد مرت شهور عديدة دون الحصول على شيء.