كانت في سريرها تكور جسدها حتى مست ركبتاها اسفل ذقنها، وجه ملائكي جميل الصورة ، حاجبان نحيلان اشقران يعلوان عينان سمراوتان وسيعتان تدوران في فلك ابيض نقي ، والوجه ابيض تعلوه حمرة، دائري قمري الطلة ،حوى مبسما صغير رسمت شفتاه حمراوتان بابدع هيئة ،يعلوها انف ارتفع بدقة ، لوحة وجهها رسمت طفولية حتى ما يقوى الناظر اليها غض الطرف عنها، فيطيل السفر والتحديق في آية من جمال . في سريرها ضمت يداها الى راسها تشد بكفيها على اذنيها تعمل جاهدة على خنق صوت تكرهه تتمنى ان لا تسمعه، ان لايصل اليها. لكن لا جدوى الصوت يشق طريقه لا عائق يوقفه
،لا حاجز يخفته، يعلوا ويتردد صداه في داخلها ، يوقظ احزانها، يقتل آمالها ، يحي اماني الموت فيها ... صوت يتردد بكلمات قاسيات جارحات. هي كلمات امها وكلمات ابيها واخيها والمتسكعين في الشارع وكل من اراد ان يدلي بقول. انهم جميعا لا يرحمون دعواهم فيما يقولون حبها وحب مصلحتها ، وبعضهم يدفعه حب الهمز واللمز والسخرية . وجميعهم عليها يجترؤون، يقبحون و يتندرون... جريمتها التي لا تغتفر انها وهي ابنة العشرين حملت وجها جميلا على جسد بدين متين.
(فيلة ، دبة ، سمينة ، برميل... السعرات الحرارية، الحمية ، الممنوع ...) تتردد هذه الكلمات رصاصات قاتلات، ولا تملك لها صدا ولا عليها ردا. باتت تكره كل شيء: الحديث والاكل والملبس و النزول عن السرير والخروج من الغرفة و مواجهة الناس، ما عادت ترغب في شيء من دنياها. قاست الوان الرياضة المضنية وانواع الحمية الصارمة ، حتى ربط فمها منعا للاكل ، وكل هذا لم يجدي مع البدن السمين نفعا.
تحدث نفسها ان لو تصرخ في وجه امها وابيها ردا على تعنيفهم :( ما انا الا ضحيتكم فانا بين جينات ورثتها عنكم وسوء تنشئة على عادات أكل أخذتها منكم ... انا وجسمي صنيعتكم وضحيتكم امي ، ولو كان من انصاف لحوكمتم عني... الم تعلمي امي ان مجرد ان اكون انثى في هذا المجتمع يعني حقوق مهضومة و عقبات مثبطة ، فكيف اذا جمعت اليها بدنا سمينا في مجتمع لا هم له الا المظهر ولا يعرف من حسن المظهر ولا معاييره الا ما فرضته دور السينما والازياء... الا ترحمين امي ). لا تبوح بهذه الكلمات يمنعها خوفها ، حياؤها او يأسها من الرد عن نفسها. و ما عاد فيها عزم ولا رغبة لفعل اي شيء، القت سلاحها. كانت من قبل تمني نفسها بمستقبل زاهر تعمره مع زوج محب وابناء بررة ، كانت تتخيل ضمهم ولثمهم وسعادة تحوطهم . ماتت المنى عندها وايقنت انه ما لها من مستقبل مشرق ولن يأتي زوج عاشق ، هذه بشارة امها المتكررة لن يأتي احد ما دامت تصحب هذا الجسد البدين، وهذا الرفيق البدين اللعين لن يفارقها.
ولما رات امها ما آل اليه حال ابنتها طفقت تبحث في من حولها تلتمس لمأزقها مع ابنتها مخرجا".حتى كان ان عاد ابن عم ابنتها من سفر طالت فيه غيبته. كان يكبر ابنتها ببضع عشر سنة ، طيب السمعة ، محبوب عند معارفه ، مقنع الحديث ، وهو بعد اعزب. اطلعته على ما انتهت احوال ابنتها اليه وسألته العون في امرها،ورتبت له لقاء يجمعه بابنتها.
لقيها وكم سرت وكانت سعيدة بلقيا ابن العم ، فقد كان ممن يحسن اليها ويحامي عنها في صغرها، كان من قلة من الناس احترمتها وناصرتها . (ايه ليتهم جميعا مثله.. ) كان هذا حديث نفسها. سألها عن حالها وعن شحوب باد عليها ؟ باحت فلتات لسانها بشأن ما تعانيه من قمع وتبكيت بسبب جسدها البدين ،وكم هي صعبة حياتها اذ لم تخلق بمقاييس يرتضيها الناس. توجه اليها بسؤال:( لو قدر انك في جمع فيه واحدة وديعة طيبة لكن اجتمع الحضورعلى شتمها وضربها وايذائها لانها كانت قبيحة ! اكنت فاعلة ما يفعلون؟ او ستسكتين؟ او ستدافعين عن القبيحة؟) عجبت للسؤال و اجابته: بالطبع سادافع عنها ، فقبحها ليس بذنب عليه تعاقب. فعجل لها القول : ( لكني اراك تقفين مع الظالمين تعاقبين جسدا لا ذنب له الا انه لم يرض هوى الناس . ان اولى من تقفين معه وتحامين عنه جسدك فلا تجمعي عليه عداء الناس وعدائك ، الا يكفيه ما وقع عليه من ظلمهم ! لا تقتليه انصفيه واحبيه فهو رفيق العمر !).
حسين الصحصاح