ضمت الدمية إلى صدرها كما تصنع والدة عطوف مع وليدها...كانت ضمة طويلة و موغلة في الطول. قبلت سعاد لعبتها في حنو ثم أمسكت مشطا علقت به بقايا شعر أشقر. في حركة وديعة راحت تمشط شعر الدمية الذهبي و المتموج، ثم جمعته في ضفيرتين طويلتين...سعاد في هذه اللحظة بادية الغبطة و الفرح. إنها تحضن من حين لآخر لعبتها الأثيرة إلى قلبها ...إنها هدية من عمتها يوم عيد ميلادها المنصرم منذ أيام .
فجأة أسلمت خيالها الخصب للذكرى... ذلك اليوم المطير المشرب برائحة الغيوم العذبة و التي يعانقها عطر الزنابق المتسلل عبر نوافذ البيت...كان عيدا حافلا بالأحداث اللذيذة. و الحدث الأسعد و الأروع لذة هو تلك الهدية الباهرة...حينها قبلتها عمتها في حنان و الدموع تترقرق في مآقيها قائلة – ها هي لعبتك بنيتي و أتمنى لك طول العمر – ليلتها أوت سعاد إلى فراشها باكرا و الفرحة تغمر كل خلايا جسمها...ضيفة جميلة ستقاسمها فراشها الدافئ. و قبل أن تخلد إلى النوم الهنيء قررت أن تطلق على دميتها اسم "لينا" و سرعان ما همست في أذنها البلاستيكية الباردة- ليلة سعيدة يا طفلتي لينا –
هنا في هذه الغرفة الموحشة تقبع سعاد بين جدران باهتة تختزن جميع برودة العالم...تابعت تمشيط شعر لعبتها في رفق. و ما لبثت أن ألبستها منامتها الصغيرة الحمراء. سعاد حاكت تلك المنامة بأناملها الرقيقة في يومين...كانت المحاولتان الأولى و الثانية فاشلتين و سرعان ما مزقت سعاد المنامتين الأولى و الثانية. كان شكلهما يدعو للتندر و الضحك... أما المحاولة الثالثة فقد كانت ناجحة و أثمرت هذه المنامة الأنيقة ذات اللون الأحمر القاني. يومها صفق أهل الدار بحرارة لهذا الانجاز الباهر و أثنوا على سعاد الثناء الحسن.
و ضعت سعاد دميتها إلى جانبها على الفراش مثل الرضيع. خاطبتها هامسة كأنها تجتهد ألا تطرد النعاس عنها – حبيبتي لينا لقد أزفت ساعة النوم ،أتمنى لك أحلاما لذيذة – قبلت سعاد دميتها بين عينيها ثم هرعت بخفة إلى المصباح لإطفائه...زمجر الريح غاضبا خارج الغرفة و أوشك أن يقتلع زجاج النوافذ. ظهر الاستياء على ملامح سعاد و للتو ضاعفت الغطاء فوق لعبتها لينا مخافة أن يتسلل إليها لسع البرد...و سرعان ما تطرق النوم في تؤدة إلى جفني سعاد و راحت تغط في سبات عميق. كان الليل طويلا يحفه الصمت المطبق مثل دأب ليالي الشتاء السرمدية...سيو-سيو-سيو غردت أسراب السنونو معلنة تلاشي ذلك الرداء القاتم الذي توشح السماء لساعات طوال. و آن لضوء الفجر أن يعانق الأغصان و البيوت و الأشياء جميعا...انتبهت سعاد على الرائحة المميزة التي يحملها الصباح معه . و غازل النشاط جسمها الضئيل...خارج البيت بيب-بيب-بيب- توقفت سيارة إسعاف بيضاء اللون تحمل في خجل على أحد أبوابها هذه الكلمات "مستشفى الأمل للمتخلفين عقليا "...نزل ممرضان من المركبة و في أثرهما رجل أنيق اللباس. قدم صاحبنا نفسه لأهل البيت قائلا- أنا الطبيب المعالج .أين المريضة من فضلكم لقد جئنا لاصطحابها إلى المستشفى-
أجاب الوالد في تأثر بالغ – ستكون بين يديك في لحظات سيدي- و هنا كفكف الأب دموعه دون أن يثير الانتباه.
سأل الطبيب الوالد و راح يدون على دفتر ضخم – اسم المريضة و لقبها و سنها-
يجيب الوالد – سعاد عبد الخالق و سنها ثلاثون عاما-
مضت دقائق طويلة كما الأعوام...وسط تجهم سكان الدار و استيائهم غادرت المركبة المكان و هي تحمل في جوفها سعاد و دميتها تتدلى بين يديها.