تطلع بإمعان إلى هذا السطح الزجاجي الصقيل...خلفه تقبع في إصرار صورة مهترئة بالأبيض و الأسود. أكيد إنها صارعت تعاقب الأيام بضراوة و لم تفقد من ملامحها و بريقها الا النزر القليل..احتضن الكهل تلك الصورة و لثم زجاجها الأسيل بشفتين مرتعشتين. تك تك تك تك كانت قطرات المطر في هذه اللحظة تعزف نشيدها اللذيذ خارج البيت... أنامل الرجل تتلمس الإطار الخشبي للصورة العتيقة و تحوطها بالعناية و الرفق و الحنان. نفر من الشباب في أتم الأناقة و الوسامة يتوسطون تلك الصورة و الابتسام يضيء سحناتهم البريئة...أحدهم هناك في الخلف، ناحل الجسم و قصير القامة يبدو أنه كان يصارع من أجل أن يظهر في الصورة جليا و واضحا مثل بقية الرفاق. ملامحه توشك أن تنطق قائلة " أنا موجود هنا في
الخلف"...ماذا شيء ما كان في يده اليمنى...بلى انه رفيق دربه و أحب شيء في الوجود إلى قلبه. انه الكمان...هنا أفرج الكهل بين شفتيه عن ابتسامة عريضة أضاءت ما تبقى من وسامة على ملامحه. و أزاحت عن جبينه الوضيء ما تراكم من غبار السنين المتعاقبة.
انزلقت أصابع سي رشيد الطويلة على زجاج الصورة البارد...تلمس وجوه أولائك الرفاق .لقد خطفت يد المنايا أغلبهم. و بسبابته اليمنى راح يتلمس في فخر بالغ وجه ذلك الشاب القصير...انه سي رشيد أيام الشباب .وضع أخيرا سبابته الحانية على سر سعادته و عشق حياته و منبع أمجاده . على الكمان و كأنما يريد أن يجدد العهد مع تلك الآلة الحبيبة إلى قلبه...تبادر إلى ذهن سي رشيد شريط من الذكريات اللذيذة. يوم إن التحق بالفرقة الموسيقية للبلدة...لن ينس أول حفلة شارك فيها. انطلق ذلك الحفل الباذخ ،لقد كان احتفالا بعيد العمال ...جاء دوره ليعزف على الكمان .أجل ذلك الكمان نفسه الظاهر على الصورة...استرسل في العزف و ظفر في لحظات بإعجاب الجمهور و تصفيقه. كانت تلك بداياته الأولى...و دون سابق إنذار حدث ما لم يكن في الحسبان. طنننننننننن انقطع أحد أوتار الكمان .ثم الثاني و الثالث و ضجت القاعة بضحك هستيري، و اجتاحت صاحبنا عاصفة من الخجل تمنى يومها لو أن أمه لم تلده.
طبعا لم يكن من السهل على سي رشيد أن يشق طريق المجد بسهولة و يسر و سط كوكبة من الموسيقيين اللامعين ...لكن مع انصرام الأيام أصبح الرجل عازفا لامعا هو كذاك .و موسيقيا مرموقا يتهافت الصحفيون للظفر بحديث صحفي معه....طق طق طق أحدهم قرع الباب. دخلت ابنته الغرفة تحمل طبق القهوة المسائي. بادرها الوالد في رقة بالغة. إنها رقة الفنان – حنان إلي بالكمان لو سمحت-
هرعت الفتاة في خفة الفراشة إلى المكتب و التقطت الآلة الموسيقية و ناولتها للكهل قائلة – أوه يا أبتي يبدو أن موجة البرد التي ألمت بك قد ولت الى غير رجعة. أنا أتحرق شوقا إلى عزفك الباذخ-
في الخارج و فوق أوراق الشجر كان المطر يهطل في تؤدة و يرسل رائحته الآسرة إلى أرجاء هذا البيت الوسيع...ضبط صاحبنا الفنان أوتار الكمان و أرسل الألحان من بين أصابعه الطويلة لتعانق الآذان الظمآنة لتلك الزخات الموسيقية العذبة...رائحة المطر أضفت على هذه الوليمة الباذخة مسحة رومانسية أرسلت الفتاة إلى ضفاف ذكرياتها الجميلة. لكن سنة من النوم تسبح بالفتاة بعيدا الى حيث الموسيقى و الربيع و الشمس...استفاقت فجأة على عزف بعيد جدا. إنها تعرف هذا العزف الجميل كما تعرف نفسها...انه عزف والدها رشيد. لكن الكهل ليس في هذه الغرفة. أين هو إذن؟...ارتاعت الفتاة و استبد بها القلق. نطت من مجلسها و ألقت ببصرها خارج النافذة " رباااااااااااااااااااااااه "أرسلتها دون أن تشعر و أطلقت ساقيها للريح صوب فناء المنزل. هناك تحت هطول جنوني للمطر كان سي رشيد يحضن الصورة إلى جسمه المحموم في حين كانت أصابعه الهزيلة تداعب دون توقف أوتار الكمان.و المطر يغمر شعره و وجهه. لقد كان جسمه و ملابسه مبتلان مثل عصفور في عاصفة شتائية.
حزنت حنان لهذا المشهد و أدخلت والدها إلى سريره بعد مشقة...بعد أيام أرسلت ذلك الكمان الرائع إلى بائع تحف مقابل ثمن بخس و الألم يعتصر قلبها،و لبث الكهل شهرا كاملا في سريره يصارع سطوة الحمى و ما لبث أن تماثل للشفاء ... مضت شهور و كتبت أحدى الصحف أن أحدهم عثر على كنز من اللؤلؤ الثمين في جوف كمان عتيق