في شموخ أزلي ترسل الشمس خيوطها الذهبية إلى هذا الشارع الطويل..سخية و معطاءة و ذلك دأبها و تلك سيرتها دائما. دفئها و أشعتها يكتنفان الأمكنة و الأشجار و الزوايا و الأحجار التي أنهكتها برودة الليل السرمدي ، و الذي انتهت بالكاد سويعاته المملة ليتيح للنهار أن يرخي سدوله المضيئة و يحمل الأمل الجديد إلى هذه الدنيا..هنا فوق هذا الرصيف- أو بقايا رصيف- كانت أمال تحث الخطو ، مستمدة النشاط من تلك الشمس الدافئة..مالت إلى كشك متواري في خجل تحت دوحة باسقة ،تشكل أغصانها المتعانقة مع البلابل و العنادل عزفا ملحميا حررت شهادة ميلاده للتو في قصر من قصور كليوباترة الباذخة.. وحده هذا العزف كفيل بأن يبدد ذلك الضجر الصباحي الذي يتوشح قلوب البشر.
- صباحك سعيد عم محمود-
- صباحك أسعد بنيتي أمال . هاهي جريدتك المفضلة-
ودعت أمال الرجل الكهل . و واصلت المسير فوق ذاك الرصيف الممل و التهمها الزحام مجددا..لا يزال على موعد الجامعة ساعة أو بعض ساعة. يممت صاحبتنا شطر النادي الثقافي ، موقع كأنه ولد من رحم الجنان. خضرة و ماء و ورود و ربيع متواصل كل شهور السنة..ترتاد أمال هذا النادي كل صباح . هنا في حضن هذه الطبيعة الآسرة يروق للفتاة أن تلتهم صحيفتها و ترتشف قهوتها في دعة و اطمئنان ،و قد تلتقي بعض الصحب و الخلان.
بسطت الجريدة على الطاولة ،راحت تقرأ ذلك العمود الأثير إلى قلبها . إنها تعشق حتى النخاع أسلوب هذا الصحفي اللامع و إجادته لطرح آراءه في جرأة، و لهذا السبب وحده آثرت أن تلتحق بمعهد الصحافة و الإعلام .
جلس هناك في أقصى النادي . قبالتها ..سيجار كوبي طويل يتهادى بين أنامله. اختلست أمال النظرات إلى ذلك الشاب..حاولت ألا تثير انتباهه و اجتهدت ألا يفارق بصرها الجريدة.. لقد كان أنيقا حقا ،ربطة عنق ايطالية أضفت إلى وسامته بهاءا و رواء ..طوت صاحبتنا الصحيفة و راحت ترتشف القهوة و هي تجتهد أن تظهر بعدم الاهتمام . ابتسم صاحبنا هناك من بعيد ..ابتسامة جذابة بددت غيوم الشتاء الذي فرخ في صدر الفتاة سنين طويلة.
لم تحفل أمال بتلك الابتسامة..إنها تخشى أن تكون ابتسامة عابرة مثل سحابة صيف..إنها تصادف هذا الشخص لأول مرة في هذا النادي..سألت النادلة و هي تهمس:
- من هذا الشاب القابع هناك ؟-
- إنها المرة الأولى التي أشاهده فيها..أصدقك القول انه أنيق و آسر – هتفت النادلة و هي تغمز بإحدى عينيها الكبيرتين ..تورمت وجنتا أمال خجلا . و زاد دفء الشمس . و تواصل سيل الابتسامات من هناك..الأشجار تبدوا يانعة كأنها تحضن الربيع بين أفنانها و أزهارها و لا تطيق فراقه..اصطنعت الفتاة عدم الاكتراث ثانية...أجالت بصرها في أرجاء تلك الطبيعة الأخاذة . لكن شيئا ما يصرخ في أعماقها و يلح في الصراخ . يحثها على أن ترنو إلى ذلك الفتى الوسيم..ساورها إعجاب مفاجئ به...شعور لم تتذوق حلاوته قط. ثم ماذا؟ ها هو الشاب يغادر طاولته إلى أين ؟؟ بخطوات واثقة اقترب الشاب من طاولتها.
- صباح الخير آنستي. هل لي أن أجلس إليك بعض الوقت؟-
فاجأتها جسارته ..قالت و هي تحاول ألا تفضحها مشاعرها- كيف تجرؤ يا هذا. أنا لا أعرفك-
- أتمنى أن أعرفك أيتها الغادة . على كل أنا الدكتور أمين رشاد أخصائي الأنف و الحنجرة،أعزب –
- متشرفة. لكنك لم تفصح عما تريد بعد –
- رجاءا عرفيني بنفسك أولا-
- أمال طالبة جامعية. سنة ثانية صحافة –
- الحق أنني لم أكن أصدق مقولة الحب من أول نظرة..لكن منذ دقائق فقط أصبحت من أنصار تلك المقولة-
تورد وجه أمال بحمرة استهوت الشاب كثيرا..ردت و هي تصطنع عدم الاكتراث اصطناعا :
- إن حديثك هذا لا يعنيني يا سيدي –
- كيف لا يعنيك و أنوثتك المتدفقة هي سبب هذا التغير-
ابتسم الفتى ابتسامة أسرت ما تبقى من مقاومة لدى أمال..أطرقت إلى الطاولة في خجل و قلبها الخفاق يكاد أن ينطلق من بين أضالعها إلى أجواء السماء و يحطم كتل الصمت هناك قائلا- لقد ملكتني للأبد أيها الفتى الفارس-
نطقت صاحبتنا بعد مدة – أشكرك على كلامك الرقيق. أنا لا أستحق كل هذا الثناء-
- بل أنا من يشكرك على هذا اللقاء السعيد. أستسمحك في دقيقتين لأحضر لك هدية أتمنى أن تروقك. انتظريني-
انطلق الشاب و ترك أمال في بحر من الهيام و السعادة ،قد حفت شطآنه بالورد و الزبرجد و القصائد الباذخة...أفرجت أخيرا عن ابتسامة نبتت من رحم الانتظار الطويل..انتظار ذلك الحبيب الذي أبطأ كثيرا و هاهو اليوم يغزو منتصرا كل الصروح و الحصون المرتفعة بين أضلاعها.
في هذه اللحظات المشربة بالفرح و السعادة ،بسطت الفتاة جريدتها ثانية في انتظار عودة ذالك الفارس الجموح..قلبت جفنيها بين الصفحات.. لحظة صمت طويلة جدا .و سرعان ما هتفت أمال ذاهلة ..ياااااااااااه. اعتلت سحنتها صفرة منكرة.لم تصدق ما قرأت.. راحت تقرأ مرة و مرة ( بلاغ. لمن يشاهد هذه الصورة رجاءا إبلاغ الشرطة فورا . إنها صورة الدكتور أمين رشاد أخصائي الأنف و الحنجرة سابقا..مختل عقليا و لقد فر من مستشفى الأمراض العقلية يوم أمس . انه عنيف و خطر على سلامة المواطنين)