رمى حامد شباكه المتهرئة في البحر و هو يمني نفسه بصيد وفير هذه المرة...ساورته نشوة لذيذة بأنه أمير البحر الذي لا يشق له غبار قط. الأبحر الفسيحة تتراقص في أناة تحت قاربه و تقدم فروض الطاعة و رافعة أعلام الولاء لهذا الأمير الأشم. و شموس الكون كلها تنتظر إشارة واحدة من أنامله الرفيعة كي تنقض صاغرة عند قدميه المشربة بملوحة هذه المياه الوادعة ... لا يدري حامد ما هو رقم هذه المحاولة ...
إن شبكته ما خذلته قط ، منذ الصبيحة لم تتعلق سمكة واحدة بشباكه و هو الصياد اللامع المشهود له بالمهارة و الحذق.
و مكث الكهل يرنو إلى المياه الرائقة و هي تتلألأ تحت أشعة الشمس ،و أخشى ما كان يخشاه أن يستعيد شباكه خالية الوفاض لا سمكة فيها ، فيغدو نكتة يتندر بها أقرانه من الصيادين...أمسك حامد شباكه مترقبا أن تهتز و تضطرب فتلك إشارة إلى امتلاء الشباك ..كلما كان الاهتزاز قويا و الاضطراب عنيفا كانت الغنيمة باذخة و كان الرزق رغيدا ،و كان احتفاء بنيه بهذه الوليمة الفاخرة رائعا لا ينسى .
الصيد هو مورد رزقه الوحيد .. ورث زورقه المتواضع هذا عن أبيه و هو كل ما يملك من متاع في هذه الحياة.. مر به أحد الصيادين على زورقه و قد امتلأت صناديقه بشتى ألوان السمك . كانت الحياة لا تزال تدب في شرايينه فهو يثب متنقلا من صندوق لآخر... صاح الشاب و قد بدا عليه الارتياح مخاطبا حامد – يا عم حامد لا تجهد نفسك بالبحث في هذه المياه...الأسماك هناك بعيدا في عرض البحر-
رد حامد و قد أشرق وجهه بابتسامة عريضة- أتمنى أن أجد شيئا هناك فلا أظن أن شباكك النهمة تركت لي سمكة واحدة-
ضحك الصياد ثم قال متوددا – الخير كثير يا صديقي فلا تحمل هما ،ثم إن شباكك المباركة و لمستك السحرية كفيلة بأن تغري الأسماك بأن تحدق بزورقك و ترتمي طوعا في شبكتك –
ابتسم حامد و قد استهواه ذلك الإطراء الرقيق ، قال مستطردا – لقد خذلني البحر طيلة الصباح فسئمت منه و سئم مني ،و شحت الأسماك ووجدتني و قد بلغ مني اليأس مبلغا عظيما –
قال الصياد في نبرة مواساة – لا تبتئس يا عماه ،إن حرفتنا هذه شاقة و مرهقة و مع تلك المشقة و ذلك الإرهاق قد يسوق لك القدر شيئا قليلا أو كثيرا من السمك ،أو ترجع من صيدك معدما صفر اليدين –
أجاب حامد و هو يسترد شبكته من الماء و قد خلت من الأسماك – معك كل الحق يا صديقي ،لابد للمرء أن يكون ذا روح رياضية كما يقول أصحاب الكرة-
و أردف و هو يرمق الأسماك التي تنط في قارب صديقه - لا بد لي أن أبحر في عرض البحر أتعقب أثر السمك و أصنع صنيعك عسى أن يتاح لي ما أتيح لك من الصيد الوفير-
صاح الشاب مودعا و هو يجدف زورقه بقوة – تحياتي الخالصة وحظا سعيدا يا عم-
لقد انتصف النهار حينما أرسل حامد شراع زورقه و شده جيدا حتى لا تعبث به الرياح ...واندفع الزورق العتيق سائرا يمخر عباب الماء في أناة و رفق ، وجرت نسائم باردة تزيح غبار اليأس عن قلب الصياد فراح يعد شباكه المنهكة لجولة صيد جديدة توسم فيها كل النجح و السداد ...
في هذه البقعة الموغلة في البون عن الساحل والبعيدة كل البعد عن صخب البشر وهدير المحركات و جلبة الحضارة...راح صاحبنا يمشط المكان بقاربه جيئة و ذهابا...أخيرا أوقف حامد زورقه بسهولة و يسر مثلما ينقاد الفرس الجموح إلى فارسه ،و بكل ما أوتي من قوة أرسل شباكه لتتغلغل في رحم الماء .وبأصابعه الطويلة و الدقيقة شد خيوطها بعناية كي لا تفلت منه... في هذه اللحظة الحاسمة أرسل بصره بعيدا هناك في الأفق الرحيب ،انه وحيد هنا في عرض البحر لا رفيق يؤنس و حشته إلا أسراب النورس التي اتخذت من كبد السماء مسرحا تستعرض فيه فن التحليق و تتهادى مغتبطة بهذا الفضاء الذي لا يعكر صفوه متطفل آدمي... تتعلق عينا حامد فجأة بمركب ضخم يبدو في الأفق البعيد ،فيبدد هدير محركاته و حشة المكان و سكينته ،و يرنو صاحبنا في انشغال إلى سحب قاتمة من الدخان المنبثق من المركب إلى السماء فتنزعج النوارس لهذا النزيل الثقيل و تتبرم من ذلك الضيف البغيض . وتترك تلك الأجواء العفنة و المنتنة إلى حيث الهواء العليل و السماء الصافية .
و دون سابق إنذار تضطرب شبكة حامد بعنف لا قبل له به . و يضطرب معها الزورق جميعا ،و ينبهر الرجل لتلك القوة... تخونه شجاعته فجأة و ينتابه خوف و هلع شديدين من هذا الزائر العنيف الذي يتخبط في شباكه...لكن الرجل يستجمع ما تبدد من شجاعته ، و في استماتة – لم يعهدها هو نفسه- استخلص شباكه من جوف الماء و قذف بها على سطح الزورق...يااااااااااااااااه... صيحة عفوية خرقت صمت المكان – ماذا أرى؟ هل أنا في حلم؟ لا أصدق...عروس البحر في شبكتي؟؟- و تقهقر حامد إلى الخلف و قد تملكته الدهشة و الحيرة معا.
عروس البحر لا تزال عالقة في الشباك تهتز بين الحين و الآخر ،و قد أعيتها الحيلة في التحرر من تلك الخيوط اللعينة ،فأذعنت مستسلمة لصائدها ...و عادت السكينة إلى حامد أو عاد حامد إلى السكينة بعد لأي .تفرس مليا في العروس الممددة أمامه ...انتصب مشدوها و مأخوذا بهذا الكائن البارع الجمال...شعر سرمدي أصفر كمثل الذهب الخالص يوشك لكثافته أن يحجب مفاتنها. و جفنين جمعا بينهما بهاء كل حسناوات الدنيا .و جسد فاتن كأنه قد من المرمر الأسيل ...أحم..أحم..قطعت العروس على حامد فرجته اللذيذة بصوتها الرخيم – مرحبا يا عزيزي حامد –
جحظت عينا الكهل فجأة و قال و هو يتلفت – ماذا؟ لو سمحت رجاءا ...كيف عرفت اسمي؟-
أطلقت العروس ضحكة مغرية ذهبت بلب الرجل و قالت متوددة – نحن معشر عرائس البحر نحفظ عن ظهر قلب أسماء صائدينا من أول يوم نرى فيه النور وسط الماء-
ابتهج الكهل لهذا الحديث و قال و قد اطمأن أخيرا لهذا الصيد الفاتن – لي الشرف أن أكون أول من اصطادك و أطمع أن أكون الأخير-
احمر وجه العروس و قالت في لهجة يقين – ثق يا هذا أنك رجل محظوظ-
أجاب حامد مستفسرا و قد تملكه الزهو و الخيلاء – من أي حكايات ألف ليلة و ليلة جئت ؟؟-
قالت العروس و هي ترنو إلى صفحة البحر الزرقاء كأنما تمني نفسها بالعودة إليه – أنا عرابة شهرزاد و قد روت تلك الحكايات عني... سأمنحك دينارا من الذهب الخالص و لكن بشرط و حيد –
اكتسحت الدهشة طلعة الكهل مجددا و اتسعت عيناه أمام هذا العرض السخي و قال- أنا أستمع ...فهات ما عندك -
قالت العروس بصوت أخاذ يستهوي القلوب – شرطي أن تطلق سراحي من هذه الشبكة و أعود إلى الماء مقابل أن ألتقيك أصيل كل يوم عند الصخرة العملاقة و تقبض مني بعد ذلك الدينار الذهبي الموعود –
قهقه حامد عاليا و قال – أو تظنين إنني طفل ساذج يطمئن في يسر إلى هذا العرض الثمين حقا –
و أردف في شرود – ثم كيف أضمن أنك لا تقلبين لي ظهر المجن و تفلتين من بين يدي إلى هذا البحر المتلاطم و إلى غير رجعة-
أجابت العروس بابتسامة آسرة – أصدقك القول يا حامد ،فقد توقعت منك تلك الإجابة –
ثم تابعت كلامها بنبرة حازمة – تأمل جفني مليا و ستتيقن أنهما لا يعرفان الكيد أو الالتواء...ثم ماذا تصنع بي فأنا لحم و دم و لست ذهبا أو دنانير –
و تأمل الصياد هاتيك العينان فإذا هو مأخوذ بجمالهما الأخاذ و مبهور بهذه الأنوثة الطاغية ...ثم هرع إلى الشباك فأزاحها عن جسد العروس بعد مشقة عظيمة و قد استبد به الطمع في أن يقبض ذلك الدينار الساحر...و قال- هيا انطلقي إلى الماء ،و لا تنسي موعدنا هذا الأصيل عند الصخرة العملاقة –
وثبت عروس البحر إلى الماء منتصرة و هي تجدف بذنبها الطويل معلنة احتفاءها بعودتها إلى عالمها الكبير...ثم أخذت تسبح بانسياب و يسر حول الزورق و هي تلوح بكلتا يديها إلى الصياد و الابتسامة الفاتنة لا تكاد تفارق ثغرها المكتنز ...ثم خاطبت الرجل الذاهل قائلة – ما كنت أظن أنك ستزهد في بهذه السهولة ، و لو عرضت عليك كل أموال الدنيا –
ثم ابتعدت قليلا عن الزورق و أردفت و قد ظهر الاستياء على وجهها – لو تريثت و أبقيتني معك لكنت أهديتك هذا الكنز.لكنك كنت متسرعا و فرطت في بدون تردد - و دست يديها بين جدائلها الذهبية الكثيفة و استخلصت منها صرة ،فتحتها فإذا هي كومة من اللآليء الثمينة...وانعقد لسان الرجل و أسقط في يده ،ثم عض على أصابعه من الغيظ و الكمد و تولى مهزوما محزونا... أما عروس البحر فنثرت تلك اللآليء الثمينة بعيدا في الماء و انغمست في المياه الزرقاء دون وداع الصياد الذاهل.