المذاهب.. والأدلة...
المذهب المالكي مثالا...
- يقول ابن القصّار المالكي رحمه الله وغفر له-
عِماد كل مذهب هو الدليل، ولولا وجود الأدلة لمَا صح أن توجد المذاهب أصلا، وهذا عام في جميع المذاهب المعتبرة ولا اختصاص له بواحد منها، وما يراه الطالب من تجريد كتب الفقه من الأدلة لدى المتأخرين يقع في خاطره أنها لا دليل عليها، في حين أن هذا التجريد هو طريقة في التصنيف نشأت عن التطور الطبيعي للتأليف الفقهي، جاءت إلينا بعد مراحل كثيرة في التصنيف.
1- أول هذه الطرق، هو جمع الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة- رضي الله عنهم- مع استنباط المعاني منها، وهي طريقة الأئمة المجتهدين، وعليها بنى الإمام مالك كتابه" الموطأ"، وهو أول من جمع السنة من الأئمة الأربعة، جمَع في " الموطأ" قبل التنقيح والتحرير والتهذيب اثني عشر ألف حديث وأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ثم هذَّبه ونقَّحه واقتصر فيه على 1720 حديثا وأثرا.
2 -بعد مرحلة الجمع تأتي مرحلة التدوين، أي تدوين أقوال وآراء الإمام وما فهمه من النصوص النبوية والآثار عن الصحابة في كتاب، ويُمثّل هذه المرحلة كتاب" المدونة" فهي الأصل الثاني في المذهب بعد " الموطأ" وهي تضم آراء الإمام مالك ومسائله، مع ثلاثة من كبراء مذهبه، وهم: ابن القاسم، وسحنون، وأسد بن الفرات، تولَّوا تنقيح آرائه وتهذيب أقواله مع إضافة اجتهاداتهم الخاصة المبنية أيضا على الدلائل، فهم أساطين المذهب الذين قاموا على تدوينه في الحقيقة.
ويَلحق بهذا أيضا كتاب" المستخرجة" للعتبي، جمع فيها سماعات ومسائل أحد عشر فقيها، بعضهم أخذ عن الإمام مالك مباشرة، وبعضهم أخذ عن تلاميذه.
3 - ثم جاء طور ثالث في التصنيف، وهو عبارة عن إعادة بناء مسائل المذهب مرتبةً على أبواب الفقه مع استصحاب الدليل، وليست مسائل متفرقة كما كان في السابق، وقد كان هذا من باب زيادة التنسيق والتحرير والتنظيم، ومن الأمثلة على هذا الطور: الجامع لمسائل المدونة، لابن يونس، والبيان والتحصيل لابن رشد الجد، وكذلك: الذخيرة للقرافي.
4 - ثم المرحلة الرابعة، وهي مرحلة ترجيح المذهب والانتصار له وتقديمه على غيره، وفيها تظهر بوضوح الملكة الأصولية والاستدلالية في تدعيم أركانه وتشييد أنظاره، ويُمثّلها: عيون الأدلة لابن القصّار، وتهذيب المسالك للفندلاوي، وكتب القاضي ابن العربي عموما.
5 - ثم تأتي المرحلة الخامسة، الأخيرة، وهي مرحلة المتون، وهي عبارة عن تأليف كتب مختصرة في اللفظ جامعة للمسائل المتفرقة في الكتب العُمَد، يقتصر فيها المؤلف على المسائل الفقهية، مجردةً عن دلائلها، تسهيلا وتيسيرا على الدارس، ويمثل هذه المرحلة كتاب" جامع الأمهات " لابن الحاجب، فهو جامع لمسائل الكتب الأمهات في المذهب، كالمدونة، والمستخرجة، والواضحة، والجامع، وغير ذلك، مع الاختصار في اللفظ، والتجريد عن الأدلة.
وظلّ "جامع الأمهات" هو الذي عليه الاعتماد في معرفة فروع المالكية أكثر من مائة عام، حتى قال فيه ابن خلدون " إنّ صاحبه لخَّص فيه طُرق أهل المذهب المالكي في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة، فجاء كالبرنامج للمذهب » يعني كالفهرس لمسائل المذهب.
ثم جاء الشيخ العلامة خليل بن إسحاق الجندي، فاختصره في" المختصر" مكَث فيه عشرين سنة حتى نسَخ كتاب ابن الحاجب وغطَّى عليه وصار هو أجلَّ معتمدات فقهاء المالكية إلى يوم الناس هذا.
هذا تلخيصٌ مُخِلّ لمراحل التأليف الفقهي في المذهب، وطبعا يوجد داخل كل مرحلة من هذه المراحل مدارس واتجاهات كثيرة، ومهما يكن فالمقصود هو أنك حينما تسمع واحدا يقول إن كتب المتأخرين خالية عن الدليل فاعلم أنه جاهل لا معرفة له بهذا الباب، وغير فاهم لطبيعة التصنيف عند الفقهاء ومراحل التطور في كتاباتهم.
والله أعلم.
...
مستفاد من بعض اهل العلم..