السلام عليكم
وأما مسألة التعريب ,فهي إحدى الوسائل التي يجب تبنّيها والعمل على ايجادها,وإقامة دائرة مركزية تأخذ على عاتقها تعريب ما يجب تعريبه من علوم تجريبية ورياضية وغيرها,ويجب أن تضم هذه الدوائر أناسًا على معرفة باللغات الأجنبية التي تؤخذ عنها هذه العلوم ,وأن يكونوا ممن يتقنون العربية الفصحى وعلى علم بعلوم اللغة العربية,وممن يُعرفون بعدالتهم ونزاهتهم والتزامهم بغض النظر عن دينهم,وأن لا يكونوا ممن ضُبع بالثقافات الغربية.
لغة العرب جاءت على أوزان وتفعيلات ,وكل ما في لغة العرب من ألفاظ تخضع لإحدى هذه الأوزان أو التفعيلات, هنا _إن شاء الله _ سوف أحاول حصر هذه الأوزان والتفعيلات العربية وأبيّن أهمية معرفتها ,خاصة وأنه في أيامنا هذه التي طغت على العربية ألفاظ ومصطلحات مما هب ودب من لغات العالم وخاصة الغربية منها.
ولأن معرفتها تُخولنا أن نُميّز الألفاظ العربية من الألفاظ الدخيلة العجمية ونحفظ اللغة من عبث العابثين,وتمكننا من إدراج أي كلمة غربية تحت إحدى هذه التفعيلات,وكي نأخذ بيد اللغة العربية لتأخذ مكانها الصدر بين لغات الأمم ,وقد أعجبني ما قاله الثعالبي في مقدمة كتابه"فقه اللغة وأسرار العربية":"من أحب الله تعالى أحب رسوله ,ومن أحب الرسول العربي أحب العرب,ومن أحب العرب أحب العربية,ومن أحب العربية عُني بها,وثابر عليها,وصرف همته إليها",وأقول من بغض العربية بغض العرب,ومن بغض العرب بغض الرسول العربي,ومن بغض الرسول بغض الله,ومن بغض الله بغضه الله,ومن بغضه الله باء بالخسران,وأولج في النيران.
وكانت اللغة العربية منذ أن تربعت في ساحة الإسلام وهي محط أنظار المادحين والقادحين ,لأن قدحهم في اللغة العربية قدح في الإسلام,وهي من محاولاتهم في فصل اللغة العربية عن الإسلام ليحدوا من فهم الإسلام وتعطيل أحكامه الشرعية ,لا لشئ إلا لحقد في قلوبهم ومرض في نفوسهم وعمى في أبصارهم وبصائرهم.
ومنهم من قال أن العرب كانت لهم عنايتهم بالألفاظ دون المعاني,وقد رد عليهم الثعالبي بقوله:"إن عنايتهم بالألفاظ كانت من أجل المعاني,أي:لكي يقع القول من نفس السامع موقعاً يُهيئ له الحالة النفسية التي تحفزه إلى العمل"
وكان قد رد على هؤلاء المدّعين (ابن جني في الخصائص)بقوله:"فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها,وحسّنوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك,إنما هي بالألفاظ,بل هي عندنا خادمة للمعاني,وتنويه وتشريف".
واللغة العربية من أكثر لغات الأرض دلاله معنوية,ودقة تعبير,وحسن اختيار الألفاظ.ومراعاة التناسب.
ومن دقة اللغة العربية أنها تُميز بين الأفعال من جهة الفاعل,مثلاً,خذ فعل شرب فيقولون:شرب الإنسان,ولغ السبع,كرع البعير,عب الطير.وفعل نكح.يقولون :نكح الإنسان,كام الفرس,باك الحمار,نزا التيس,سفد الطير,عاظل الكلب.وفعل فقد الجنين,فيقولون:أسقطت المرأة,أجهضت الناقة,سبطت النعجة.
ومن دقتهم أيضاً تباين درجات الجوع والعطش,فأول الجوع الجوع,ثم السغب,ثم الغرث,ثم الطوى,ثم المخمصة,ثم الضرم,ثم السعار.وأول مراتب العطش هو العطش,ثم الظمأ,ثم الصدى,ثم الغلة,ثم اللهبة ثم الهيام,ثم الآًوام,ثم الجواد,ثم القاتل وهو اعلى مراتبه.
هذا من ناحية وأما من ناحية أخرى فإن من حرص العرب على دقتهم في التعبير والتمييز بين مختلف الأفعال والصفات والأزمان,فهم وضعوا لكل صيغة وبنية وزناً يسيرون عليه:
الأفعال:كل الأفعال تكون على وزن فعل,مثل:ضرب,شرب,ذهب,فتل,جهل,ذبح,....., وإذا بالغ في الفعل يصبح:فعٌل,
مثل:ذبٌح,جهٌل,قتٌل,....
وقد يكون من أوزان الفعل:أفعل, مثل أطعم,أسقى,أهدى,أنشط,هنا نلاحظ أن هناك اختلاف طفيف بين سقى على وزن فعل,وأسقى على وزن أفعل,وكأن به شئ من التكلف.
وكذلك على وزن فاعل,مثل حارب وقاتل ونازل ,ويكون بمعنى فعٌَل نحو ضاعف الشئ وضعٌفه.
ومن أوزان الأفعال أيضًا تفاعل,ويكون بين اثنين وبين الجماعة ,مثل تجادلا وتحكاما وتناظرا.وأيضاً تفعٌل,مثل تخلص وتشجع وتحكم وتجلد ,ويكون بمعنى التكلف.
وقد يأتي بمعنى فعل نحو:استقر أي اقر,وأيضاً بمعنى الصيرورة نحو:استنوق الجمل,واستنسر البغاث.
ومن أوزان الفعل ما يأتي لحدوث صفة نحو:افتقر وافتتن وهما على وزن افتعل,ومنه ما يأتي بمعنى المطاوعة نحو:انكسر ,انجبر,وانقلب وهم على وزن انفعل.
أما بالنسبة للألفاظ الدالة على الحركة والاضطراب مثل:الهيجان,النزوان,الغليان,والضربان ,تكون على وزن فعلانٍ ,وما كان على وزن فعلانَ فيدل على صفات تقع من أحوال مثل:عطشان,غضبان,ريان,جوعان,وشبعان.
وأما الدال على الألوان فتكون على وزن أفعل,مثل:أبيض,أحمر,أصفر,أخضر...
والألفاظ الدالة على الأدواء (الأمراض) مثل:صداع,زكام,سعال,وكباد,طعان,فأكثرها يكون على وزن فُعال,وكذلك صفة الأصوات:صراخ,خوار,نباح,بكاء,وعواء...
وبعضها يكون على وزن فَعيل :عويل,ضجيج,صهيل,نهيق,وزئير,...
وأما الأطعمة تكون على وزن فَعيلة:عصيدة,وليمة,نقيعة,وسخينة,....
وأكثر الأدوية تكون على وزن فَعول :لعوق,زعوط,سموط,وجور,وذرور,...
وأكثر العادات في الاستكثار تكون علة وزن مِفعال:مطعان,مطعام,مضراب,مضياف,ومعطار ومذكار...
هذه أكثر الأوزان والتفعيلات العربية والتي تنطوي تحتها ألفاظ اللغة العربية البليغة ,كل ما تكلم به العرب من أشعار ونثر في الجاهلية وما بعد الإسلام ألفاظ عربية مؤلفة من أحرف عربية,وكذلك القرآن لا يحوي أي لفظ غير عربي,وحتى الألفاظ التي يُشك أنها غير عربية هي في الواقع معربة,أي أنها أُدرجت تحت إحدى الأوزان والتفعيلات العربية المعروفة لدى العرب واضعي هذه اللغة,وأشعار العرب ما قبل الإسلام تزخر بمثل هذه الألفاظ.
وكما قال الفقهاء:" إِلاَّ أنها سقَطَت إِلَى العرب فأعرَبَتها بألسنَتها، وحوَّلتها عن ألفاظ العجم إِلَى ألفاظها فصارت عربيَّة. ثُمَّ نزل القرآن وَقَدْ اختَلَطت هَذِهِ الحروف بكلام العَرَب."اهـ
وعليه فإن القول بان القرآن فيه ألفاظ غير عربية فهو مردود على أصحابه,فكل القرآن ألفاظه عربية وليس فيه أي لفظ أعجمي,يقول الله تعالى:"بلسان عربي مبين",ويقول أيضاً:"قرأناً عربياً",وإن ضمن بعض الألفاظ من أصل غير عربي كما جرت عليه عادة العرب وبعد أن أدرجت تحت إحدى التفعيلات العربية ,فامرئ القيس استعمل كلمة سجنجل بمعنى المرآه وهي كلمه فارسيه, قال امرئ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة = ترائبها مصقولة كالسجنجل
وكذلك كلمة ( الجُمان ) وهي الدرة المصوغة من الفضة، وأصل هذا اللفظ فارسي، ثم عُرِّب، وقد جاء في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
وتضيء في وجه الظلام منيرة = كجمانة البحري سلَّ نظامها
وأيضًا كلمة ( المهارق ) جمع مهرق، وهي الخرقة المطلية المصقولة للكتابة، وهو لفظ فارسي معرب، وقد جاء في قول الحارث بن حِلِّزة في معلقته:
حَذَرَ الجَوْرِ والتعدي وهل ينـ = قض ما في المهارق الأهواء ؟
وبما أن القرآن جاء بلسانهم وعلى طريقتهم في التعبير والأسلوب فانتهج نهجهم في ذلك,ومن الكلمات ذوات الأصل الأعجمي والواردة في القرآن,مشكاة ,وهي لفظة نبطيه وقيل حبشيه وتعني الكوة ,وهي على وزن مفعال,وكذلك كلمة إستبرق, وهي على وزن استفعل,وسجيل وغيرها من الألفاظ,وقد ألف العرب المسلمون في هذا الفن منهم السيوطي في كتابه"المهذب فيما وقع في القرآن من المعَرَّب",وقد أورد فيه بعض الألفاظ المعربة,أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. "وَأَبَارِيقَ "الواقعة: حكى الثعالبيّ في فقه اللغة: أَنها فارسية، وقال الجواليقيّ: الإِبريق فارسيّ معرب، ومعناه طريق الماء، أَو صبّ الماء على هينة.
2. "ٱلأَرَآئِكِ"الكهف، حكى ابن الجوزيّ في [فنون الأفنان] أَنها السُّرر بالحبشية.
3." إِسْتَبْرَق" أَخرج ابن أَبي حاتم عن الضحاك: أَنه الديباج الغليظ، بلغة العجم.
4." وَأَكْوَابٍ"الزخرف: حكى ابن الجوزيّ: أَنها الأَكواز بالنَّبَطيّة. وأَخرج ابن جرير عن الضحاك: أَنَّها بالنَبطية جرار ليست لها عُرَى.
5. "أَوَّابٌ",ص: أَخرج ابنُ أَبي حاتم عن عمرو بن شرحبيل قال: الأَوَّاب: المسبّح بلسان الحبشة.
6. "جَهَنَّم" ,قيل: أَعجميَّة، وقيل: فارسية، وقيل: عبرانيَّة أَصلها (كهنام) (حرم): أَخرج ابن أَبي حاتم عن عكرمة قال: وحرم وجب بالحبشية.
7."وَٱلرَّقِيم "الكهف, قيل: إنَّه اللوح بالرُّومية، حكاه شيذلة. وقال أَبو القاسم: هو الكتاب بها. وقال الواسطيّ: هو الدواة بها.
8. "سُنْدُسٍ"الكهف، قال الجواليقي: هو رقيق الديباج بالفارسيَّة، وقال الليث: لم يختلف أَهل اللغة والمفسرون في أَنه َّمعرَّب. وقال شيذلة: هو بالهندية.
9. "غَسَّاقٌ", قال الجواليقيّ والواسِطِيّ: هو البارد المنتِن بلسان الترك. وأَخرج ابنُ جرير عن عبد الله بن بُرَيدة قال: الغسَّاق: المنتِن، وهو بالطخاريّة.
10. "قَسْوَرَةٍ",أَخرج ابنُ جريرٍ، عن ابن عباس قال: الأَسد، يقال له بالحبشيَّة: قسورة.
11."وَزَرَ", قال أَبو القاسم: هو الحبل والملجأ، بالنَّبطيَّ.
والعرب يعتبرون اللفظة المعرّبة عربية كاللفظة التي وضعوها سواء بسواء,والتعريب ليس أخذاً للكلمة من اللغات الأخرى كما وضعوها ناطقوها,بل المقصود به هو أن تصاغ اللفظة الأعجمية بالوزن العربي فتصبح عربية بعد وضعها على وزن الألفاظ العربية(تفعيلة من التفعيلات).
إذن التعريب هو صوغ اللفظ الأعجمي صياغة جديدة بالوزن والحروف حتى يصبح لفظًا عربيًا في وزنه وحروفه ,ويؤخذ ويكون لفظًا معربًا.
وهنا قد يرد سؤال,هل التعريب خاص بالعرب الأقحاح وهو حكر عليهم ,لأنهم هم الذين وضعوا اللغة وعنهم رويت,أم أنه حق لكل عربي في أي العصور كان,فأُختلف فيه,فمن علماء اللغة من قال أنه حق موقوف للعرب الأقحاح وعلّلوا ذلك بقولهم أن التعريب هو وضع لألفاظ جديدة وأنهم وحدهم لهم الحق بالوضع,وفريق آخر من العلماء قال أنه يجوز لأي عربي أن يقوم بالتعريب على شرط أن يكون عالمًا باللغة العربية ونحوها وإعرابها ومحيطًا بتفعيلاتها وأوزانها وملمًا بالحروف وأحوالها ومعانيها.
والحقيقة أن الفريق الثاني على صواب,لأن التعريب غير الوضع ,فالوضع هو إيجاد لفظة جديدة وبوزن وتفعيلة جديدتين, ويتداولونها ويألفونها ويروونها,وتشتهر بين العرب.
وأما التعريب فهو صوغ لفظة أعجمية على وزن من أوزان اللغة العربية وتحت إحدى تفعيلاتها,فهو كالاشتقاق سواء بسواء,وبما أن الاشتقاق هو صوغ الفعل أو اسم الفعل أو اسم المفعول من المصدر,فهو تكلف وبذل جهد وفهم,وكذلك التعريب يتطلب تكلف وبذل جهد وفهم.
والتعريب لا يعني الترجمة الحرفية للألفاظ,كما حاول كثير من علماء اللغة المعاصرين أن يعربوا(يترجموا),فخرجوا بألفاظ تتألف من حروف عربية ولا معنى لها...مثل:التلفون_هاتف,والراديو-مذياع,والكمبيوتر-حاسوب,والترين-قطار...وغيرها,مما لايتفق مع مرونة العربية من اشتقاق وتعريب ,ويجعل اللغة جامدةً لا حياة فيها,وهذا يخالف روح اللغة العربية وحيويتها.
وبما أن الأشياء والمعاني تتجدد كل يوم,والاكتشافات والاختراعات تتوالى,والمسلمون وناطقو الضاد بحاجة إلى هذه كلها,وبما أن أهل اللغات الأخرى قد برعوا فيها وأطلقوا عليها ألفاظًا من لغاتهم(الأعجمية),وجب على المسلمين وناطقي الضاد أن ينقلوها عنهم وأن يطلقوا عليها ألفاظًا معربة (جديدة) كي يواكبوا عجلة التطور المادي,ويسيروا قدمًا مع الحياة ومتطلباتها,كما ويجب على المسلمين أن يدرسوا هذه الأشياء (اكتشافات واختراعات) لتبيان الحكم الشرعي المتعلق فيها.
وعليه فإن التعريب بتعريفه السابق ذكره يعتبر ضرورة من ضرورات الحياة والشرع ,وهو يعطي اللغة العربية الزخم اللازم لبقائها حية وتبعدها عن الجمود.
إلا أنه يجب الإشارة إلى حقيقة هامة في التعريب ألا وهي أن التعريب لا يقع إلا في الأسماء ,ولا يقع في شئ سواه,لأن هذا ما جرت عليه العرب ,فإنهم عربوا الألفاظ ولم يعربوا شيئًا سواه.والقائم على التعريب يجب أن تتوفر فيه عدا المعرفة والإلمام باللغة العربية ,المعرفة في العلم الذي يعرّبه, ومعرفة عالية في اللغة التي ينقل عنها,وذلك لرفع أي لبس قد يحصل.