الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > منتديات اللغة العربية والآداب الإنسانية > منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي

منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي هنا توضع الإبداعات الأدبية تحت المجهر لاستكناه جمالياته وتسليط الضوء على جودة الأدوات الفنية المستخدمة.

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع التقييم: تقييم الموضوع: 2 تصويتات, المعدل 1.00. انواع عرض الموضوع
قديم 16-04-2006, 06:38 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
د. محمد عبد الرحمن يونس
أقلامي
 
إحصائية العضو






د. محمد عبد الرحمن يونس غير متصل


افتراضي سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي -الجزء الثاني-د. محمد عبد الرحمن يونس

سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي في ألف ليلة وليلة
الجزء الثاني
د. محمد عبد الرحمن يونس

وبعد موته، يتأمّل الخليفة الأمويّ سليمان بن عبد الملك (96 ـ 99هـ/715 ـ717م)، ما جرى للّذين ظلمهم الحجّاج، ويسأل كاتبه يزيد بن أبي مسلم بعد أن » ازدراه ونبت عينه عنه «(31)،عن مصيره قائلاً: » أتظنّ الحجّاج استقرّ في قعر جهنّم أم هو يهوي فيها «(32)، ويجيبه الكاتب قائلاً: » يا أمير المؤمنين، إنّ الحجّاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النّار حيث شئت «(33) .
إنّ الحجّاج بن يوسف الثّقفي في حكاية » نعم ونعمة « يظلم » نعمة « ويخطف جاريته، وصاحب شرطته يتغاضى عن هذا الظّلم، والخليفة عبد الملك بن مروان يتغاضى عن ظلمهما معاً. وهكذا تتسلسل حلقات المظالم، لتتشابك فيما بينها، وتشكّل حلقة واحدة متماسكة، يستحيل على الأفراد البسطاء في مدن ألف ليلة وليلة الأمويّة أو العبّاسيّة، أو الأسطوريّة، أن يخترقوها، أو يهربوا من قبضتها . وتذكّرنا هذه الحلقة من المظالم بهذه السّلسلة من الخيانات التي تتحكّم في بنية النّظام الأمويّ، من قاعدته حتى رأسه ، وتنخره وتملؤه شرّاً وفساداً، والتي يذكرها ابن عبد ربّه الأندلسيّ(34) قائلاً: » اطّلع مروان بن الحكم(35) على ضيعة له بالغوطة فأنكر منها شيئاً، فقال لوكيله: ويحك! إنّي لأظنّك تخونني.

قال: أفتظنّ ذلك ولا تسْتَيقِنُه؟.
قال: و تفعله؟.
قال: نعم، والله إنّي لأخونك، و إنّك لتخون أمير المؤمنين، و إنّ أمير المؤمنين ليخون الله، فلعن الله شرّ الثلاثة «.
و يتفق رواة ألف ليلة و ليلة، في الحكايات التي ذكرت الحجّاج بن يوسف الثقفي، على أنّه أهمّ ممثلي الولاة الظلمة و الاستبداديين الذين ذكرتهم الليالي، و رسمت ملامحهم، تأسيساً على الأدبيّات التاريخيّة التي ساعدت رواة الليالي على تشكيل حكاياتهم، أو نقلها بتحويرات طفيفة جدّاً. ففي حكاية » رجل من الحجيج مع المرأة العجوز « ينقل الراوي بعض ما قرأه من آراء الفقهاء في ضرورة وجود السلطان في الأمّة، حتّى و لو كان هذا السلطان جائراً، و يقول(36): » و في الأمثال: جور السلطان مائة سنة و لا جور الرعيّة بعضهم على بعض سنة واحدة، و إذا جارت الرعيّة، سلّط الله عليهم سلطاناً جائراً، و ملكاً قاهراً «.
و لكي يؤكّد الراوي أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي كان جائراً في سياسته على مواطنيه في العراق، فإنّه يُثبّت الرأي الفقهي السابق بوصفه مدخلاً، يستطيع من خلاله أن يُثبّت إيديولوجيته المعادية للحجاج، هذه الإيديولوجيّة التي تتبنّى في آن النظرية الفقهيّة السابقة التي دعا إليها بعض الفقهاء(37). و من خلال المدخل الفقهيّ السابق يثبت راوي الحكاية آراء الحجّاج بن يوسف التي يعتمدها منهجاً له في رسم سياسته الجائرة، و من ثمّ ليشير إلى استنكار الناس لهذه السياسة البعيدة عن تقوى الله و مرضاته: » ورد في الأخبار أنّ الحجّاج بن يوسف رُفِعت إليه في بعض الأيام قصّة مكتوب فيها: اتقّ الله و لا تجر على عباد الله كلّ الجور. فلمّا قرأ القصّة رقي المنبر و كان فصيحاً فقال: أيّها الناس إنّ الله تعالى سلّطني عليكم بأعمالكم فإن أنا متّ فأنتم لا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيّئة لأنّ الله تعالى خلق أمثالي خلقاً كثيراً و إذا لم أكن أنا كان من هو أكثر منّي شرّاً و أعظم جوراً و أشدّ سطوةً كما قال الشاعر في معنى ذلك:
و لا ظالـــم إلاّ ســــيبـلى بأظلـــــم «(38). و ما من يد إلاّ يد الله فوقها

و إذا كان الحجّاج يُسوّغ لنفسه جوره وساديته، و تنكيله بعباد الله في المدن الإسلاميّة التي يحكم أمرها، لأنّ لهؤلاء العباد مواقف رافضة و معادية لسياسته الدمويّة، فإنّه في نهاية المطاف لا يمثّل إلاّ وجه المستبدّ الظالم، الذي يقف وراءه نظام سياسيّ اكثر استبداداً و ظلماً منه، ليعزّز بطشه، و يُسوّغ له سياسته الساديّة المعادية لأفراد شعبه، فـ » الحكومة المستبدّة تكون طبعاً مستبدّة في كلّ فروعها من المستبدّ الأعظم إلى الشرطيّ إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع؛ و لا يكون كلّ صنفٍ إلاّ من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأنّ الأسافل لا يهمّهم طبعاً الكرامة و حسن السمعة، إنّما غاية مسعاهم ان يبرهنوا لمخدومهم بأنّهم على شاكلته (…) و لهذا لا بدّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبدّ هو اللئيم الأعظم في الأمّة، ثمّ من دونه دونه لؤماً وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه «(39).


وتاريخيّاً تشير المصادر إلى أنّ السياسة التي كان ينتهجها الحجّاج كانت تتأسّس على خطاب استبدادي قامع، يرتكز في بنيته الأساسيّة على تهديد أهل العراق والتنكيل بهم، والسخرية منهم، حتى يستطيع إذلالهم وتسخيرهم، وليّ هاماتهم أمام سطوة النظام السيّاسيّ الذي يمثّله، فمنذ أن وصل الكوفة دخل المسجد الجامع فيها، واعتلى المنبر وخطب:
» والله إنّي لأرى رؤوساً أينعت وقد حان قطافها وإنّي لصاحبها، وإنّي لأرى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى، والله يا أهل العراق إنّ أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها مكسراً فرماكم بي، لأنّكم طالما أثرتم الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضّلال، والله لأنكّلنّ بكم في البلاد ولأجعلنّكم مثلاً في كل واد، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، وإنّي يا أهل العراق لا أعد إلا وفيت، ولا أعزم إلاّ أمضيت (…) فاستوثقوا واستقيموا واعملوا ولا تميلوا وتابعوا وبايعوا، واجتمعوا، واستمعوا، فليس منّي الإهدار و الإكثار وإنمّا هو هذا الِسّيف«(40) .

ولقد كان الحجّاج، في ما بعد، وفيّاً بوعده، إذ أعمل السّيف في أهل العراق وذبح رجالهم وشيوخهم، وسجن نساءهم واستأصل أموالهم(41) . وهاهو يعترف أمام خالد بن يزيد بن معاوية(42) ذاكراً عدد الذين قتلهم كما يروي أبو الفرج الأصفهاني(43): » قدم الحجّاج على عبد الملك [بن مروان] فمرّ بخالد بن يزيد بن معاوية ومعه بعض أهل الشّام، فقال الشّامي لخالد: من هذا؟ فقال خالد كالمستهزئ: هذا عمرو بن العاص، فعدل إليه الحجّاج فقال: إنّي والله ما أنا بعمرو بن العاص، ولا ولدت عمرواً ولا ولدني ولكنّي ابن الغطاريف(44) و العقائل(45)، من قريش، ولقد ضربت بسيفي أكثر من مائة ألف كلّهم يشهد أنّك و أباك من أهل النّار، ثمّ لم أجد لذلك عندك أجراً ولا شكراً «.

ويقدّم أحد الرّواة الحجّاج في حكاية » الحجّاج بن يوسف الثّقفي مع هند بنت النّعمان « تقديماً ساخراً. إذ يجعل زوجته هند بنت النعمان تجترئ عليه وتصفه بالكلب وتبدي فرحها الشّديد بتطليقه لها، فعندما أراد الحجّاج طلاقها: » بعث إليها عبد الله بن طاهر يطلّقها، فدخل عبد الله بن طاهر عليها، وقال لها: يقول لك الحجّاج أبو محمّد إنّ لك عليه من باقي الصَّدَاق مائتي ألف درهم، وهي هذه حضرت معي وقد وكّلني في الطّلاق فقالت: اعلم يا ابن طاهر أنّنا كنّا معه والله ما فرحت به يوماً قط، وإن تفرّقنا والله لا أندم عليه أبداً، وهذه المائتا ألف درهم لك بشارة خلاصي من كلب بني ثقيف «(46). ومن شدّة احتقارها له فإنّها عندما تتأمّل نفسها في المرآة ترى أنّها مهرة عربيّة وأنّ زوجها الحجّاج بغل لا يستحقّها، وتعتقد أنّ سلالتها الصافية النقيّة هي القادرة على إنجاب الأولاد المتميّزين عرقاً وأصالة، وفي حال أنّ هذه السّلالة عجزت عن إنجاب هؤلاء الأولاد فإنّ السّبب الرئيس في ذلك يعود إلى خسّة الحجّاج، ودونيّة منزلته، وسلالته غير القادرة على إنجاب المتفوّقين بيولوجيّاً وعرقيّاً، تقول(47):
سلالة أفراس تخلّلها بغل
وإن ولـــــــدت بغــــلاً فجـــاء به البغـــل « » و ما هند إلاّ مهرة عربية
فـــــــإن ولــــــدت فحـــلاً فللّـه درّهــــــــــا

وعندما يسمع الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان بحسنها وجمالها، يرسل إليها راغباً الزّواج بها، فتكتب إليه محتقرةً زوجها السّابق ـ الحجّاج ـ: » الثّناء على الله والصّلاة على نبيّه محمّد صلّى الله عليه و سلّم، أمّا بعد، فاعلم يا أمير المؤمنين أنّ الكلب ولغ في الإناء«(48). و يرسل إليها مؤكّداً رأيها في الحجّاج و محتقراً له، من خلال استناده إلى حديث من أحاديث رسول الله (ص). يقول الرّاوي(49): » فلمّا قرأ كتابها أمير المؤمنين ضحك من قولها، وكتب لها: قوله صلّى الله عليه و سلّم » إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهنّ بالتراب « وقال اغسلي القذى عن محلّ الاستعمال «.
و من ملامح احتقار الخليفة عبد الملك بن مروان لعامله الحجّاج أنّه يرضى بالشرط الذّي اشترطته هند على الخليفة حتّى تقبله زوجاً، فقد اشترطت عليه ما يلي: » بعد الثّناء على الله تعالى يا أمير المؤمنين إنّي لا أجري العقد إلاّ بشرط فإن قلت ما الشّرط، أقول: أن يقود الحجّاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون حافياً بملبوسه الّذي هو لابسه «(50). ويوعز لللحجّاج أن يقود محملها من بلدها معرّة النعمان إلى مدينة دمشق مقرّ الخلافة، فيمتثل الحجّاج للأمر(51)، و يسافر من العراق إلى بلدها معرّة النعمان(52) ليقود محملها إلى دمشق حافياً ذليلاً. وبقدر ما يبدو شرط هذه المرأة سخيفاً و متسلّطاً وفاقداً لأبسط مفاهيم القيم الإنسانيّة والجماليّة، في علاقات الزّواج في المدينة الإسلاميّة، يبدو قبول الخليفة عبد الملك بن مروان بهذا الشّرط احتقاراً ومهانة لعامله الحجّاج، وبخاصة عندما يمشي حافياً أمام محمل زوجته السّابقة، وهي تتشفّى منه محتقرةً. يقول الرّاوي(53): » فلمّا ركبت المحمل وركب حولها جواريها وخدمها ترجّل الحجّاج و هو حافٍ وأخذ بزمام البعير يقوده وسار بها! فصارت تسخر منه وتهزأ به وتضحك عليه مع بلاّنتها و جواريها «. هذا إذا عرفنا أنّ المسافة التي يجب على الحجّاج أن يقطعها حافياً، و هي ما بين معرّة النعمان ودمشق، تقدّر بحوالي أربعمائة كيلومتر.

وليس غريباً أن يقبل عبد الملك بن مروان بشرط هذه المرأة حتّى ترضى به زوجاً بعد أن سلب منه كرسيّ السّلطة حبّه للعلم والمعرفة، والقيم الأخلاقيّة الإنسانيّة التي دعا إليها النّص القرآني، إذ يُروى عن هذا الخليفة أنّه كان » قبل الخلافة أحد فقهاء المدينة، وكان يُسمّى حمامة المسجد، لمداومته على قراءة القرآن. فلمّا مات أبوه وبُشّر بالخلافة أطبق المصحف وقال: هذا فراق بيني وبينك. وتصدّى لأمور الدّنيا. وقيل إنّه قال يوماً لسعيد بن المسيّب: يا سعيد قد صرت أفعل الخير، فلا أُسرّ به وأصنع الشّر فلا أُساء به. فقال له سعيد ابن المسيّب: الآن تكامل فيك موت القلب «(54).
إنّ هذا الشّرط الغرائبيّ الذي اشترطته هند على الخليفة، وقبوله به لا يعني إلاّ شذوذاً وانحرافاً في التفكير والسّلوك، يسعى صاحبه إلى تحقيق رغبة استبداديّة ساديّة من رغبات الخلفاء و نساء السّلطة في مدن ألف ليلة وليلة، إذ تغيب ظاهرة الحلم والعفو عند هؤلاء ليحلّ محلّها سلوك مستبّد يُرضي طموح ذات سلطويّة مريضة، لا ترى في شعبها إلاّ قطيعاً مهمّته أن يظلّ منقاداً لها، و » كما تقضي الطّبيعة بأن يقود الرّاعي قطيعه، و يتصرّف به، وبأن يستجيب القطيع لراعيه ويتبعه، تقضي بأن يقود الحاكم شعبه، أي رعيّته، ويتصرّف به، وبأن يطيع الشّعب حاكمه، أي راعيه، ويتبعه (…) ففي النهاية لا يبحث الرّاعي إلاّ عن مصلحته ولذّته، ومصير القطيع لا يتعدّى تغذية صاحبه «(55).

إنّ الحجّاج في نهاية المطاف مجبرٌ على أن يلبّي مطالب الخليفة عبد الملك بن مروان، مهما كانت قاسية عليه، و مهينة له، لأنّ تلبيته لهذه الأوامر هي الكفيلة ببقائه في منصبه السّلطويّ المتميّز. و إذا كانت سيرة الحجّاج التاريخيةّ وصمة في جبين الخلافة الأمويّة، وصفحات هذه السّيرة في ليالي ألف ليلة وليلة سوداء ملطّخة بسرقة نساء المسلمين، والتّحايل عليهنّ، والاعتداء على حرّياتهنّ الشّخصيّة، كما أشير إلى ذلك(56). فإنّ هذه السيرة ـ ووفق المنطق الإنساني و العقلاني ـ لا تُسوّغ للخليفة عبد الملك بن مروان إذلاله واحتقاره لواليه الحجّاج، وإجباره على أن يمشي حافياً من معرّة النعمان إلى دمشق، إرضاءً لرغبة امرأة جميلة، يشتهيها، لمجرّد أنّه سمع بجمالها الأخّاذ . فالحجّاج طلّق هند بنت النّعمان، مثلما يطلّق أيّ رجل امرأته و أعطاها مهرها، استناداً إلى نصوص تجيز له ذلك، مستمدّة من تشريعات النّكاح الإسلامي ـ بناؤه وهدمه ـ و لا تشير الحكاية بأيّة إشارة إلى أنّ الحجّاج عندما طلّق زوجته أهانها أو احتقرها، ومع ذلك أهانه سيّده عبد الملك بن مروان شرّ إهانة، إرضاءً لرغبة هذه المرأة المستبدّة.

و من مظاهر احتقار هذه المرأة لزوجها الحجّاج، كما يقول الرّاوي(57): إنّها » لم تزل تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلد الخليفة فلمّا وصلت إلى البلد، رمت من يدها ديناراً على الأرض وقالت له: يا جمّال إنّه سقط منّا درهم! فنظر الحجّاج إلى الأرض فلم ير إلاّ ديناراً، فقال لها: هذا دينار، فقالت له: بل هو درهم، فقال لها: بل هو دينار، فقالت: الحمد لله الّذي عوّضنا بالدّرهم ديناراً، فناولني إيّاه فخجل الحجّاج من ذلك «. ويمكن القول، تأسيساً على سلوك عبد الملك بن مروان مع واليه الحجّاج: إنّه لا أمان لأيّ رجل في مدن ألف ليلة وليلة، مهما كان عالي القدر، في ما إذا كان متزوّجاً من امرأة جميلة، سمع بها الخليفة واشتهاها، على الرّغم من طلاق هذا الرجل لهذه المرأة في ما بعد. وعلى سبيل المثال: لقد عبّرت إحدى جواري ألف ليلة وليلة في بغداد عن خوفها على حياة حسن البصريّ، في ما إذا سمع الخليفة هرون الرشيد بجمال زوجته منار السنا وسحرها. و حذّرت سيّدتها زبيدة من أن يسمع الخليفة بجمال هذه الزوجة، قائلةً(58): » و حقّ نعمتك يا سيّدي إن عرف بها أمير المؤمنين قتل زوجها و أخذها منه، لأنّه لا يوجد مثلها واحدة من النساء و قد سألت عن زوجها، فقالوا إنّ زوجها رجل تاجر اسمه حسن البصري (…) و أنا أخاف يا سيّدي أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف الشرع و يقتل زوجها و يتزوّج بها! «.

و إذا كان الخليفة عبد الملك بن مروان في حكاية » الحجّاج بن يوسف الثقفي مع هند بنت النعمان « قد أهان أهمّ رموز سلطته – واليه الحجاج ـ إرضاءً لرغبة طليقته، فكيف تكون حال الرجل العادي في دولة الخلفاء، فيما إذا رغبت طليقته الجميلة في إذلاله، و بخاصّه إذا كانت هذه الطليقة الجميلة عشيقة لأحد الخلفاء أو الأمراء؟. بلا شكّ يمكن أن يُغتال، أو يُسجن أو يُنفى، فيما إذا رغبت هذه الطليقة الانتقام منه، لأنّ الرعيّة في دول خلفاء و ملوك ألف ليلة و ليلة مجبرة على أن تكون مملوكة لهؤلاء الخلفاء و الملوك، و عاجزة عن أن تقول لهم: لا، فيما إذا اعتدوا عليها و على أملاكها، فـ » العلاقة بين الحاكم و المحكوم (…) ليست أكثر من علاقة بين مالك و مملوك، فالحاكم يملك رعيّته و الرعيّة ملك لحاكمها، و الحكم مُلك، أو نوع من أنواع الملك «(59).

و إذا كان الخليفة عبد الملك بن مروان قد عاقب واليه الحجّاج هذه العقوبة المهينة والمشينة، في الحكاية السابقة، على الرغم من عدم خطئه، فإنّه في حكاية » نعم و نعمة « لم يعاقبه على الرغم من خطئه الفادح باحتياله على » نعم « و سرقتها، و السفر بها إلى دمشق، و تقديمها له هدية، وكذبه عليه. و هنا يبدو موقف الخليفة طبيعيّاً، لأنّ الحجّاج وظّف انتهاكاته للحرمات في حكاية » نعم و نعمة « من أجل إرضاء الخليفة عبد الملك بن مروان، فالخليفة مسرور منه لأنّه أرسل إليه تلك المرأة الحسناء » نعم «. أمّا في
حكاية » الحجّاج مع هند بنت النعمان « فإن مصلحة الخليفة تقتضي أن يذلّ واليه الحجاج لكي ترضى به الحسناء الأخرى ـ هند بنت النعمان ـ زوجاً لها. إنّ الآليّة الذهنيّة و السلوكيّة التي ينطلق منها الخلفاء ـ في ألف ليلة و ليلة ـ في قراراتهم و طبيعة أحكامهم تهدف ـ بالدرجة الأولى ـ إلى تحقيق مصالحهم، و طموحاتهم، و غاياتهم، و ملذّاتهم(60).

و يبدو أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان في النصوص التاريخيّة، كان يعرف أنّ واليه الحجّاج ظالم و سفّاك، و كان يحتقره على الرغم من أنّه يده الطولى التي كانت تفتك بجميع معارضي نظام حكمه، و توجّهاته السياسيّة. و لأنّه كان اليد الفاتكة بخصومه، فقد أبقاه والياً على العراق إلى حين وفاته ـ وفاة عبد الملك بن مروان ـ. و ها هو يكتب إليه محذّراً من استفحال ظلمه و تجاوزاته، و استيلائه على أموال الناس، و إسرافه في عقوبتهم، و سفكه لدمائهم: » أمّا بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين سَرَفُك في الدماء، و تبذيرك في الأموال، و لا يحتمل أمير المؤمنين هاتين الخصلتين لأحد من الناس، و قد حكم عليك أمير المؤمنين في الدماء: في الخطأ الديّة، و في العَمْد القوَدُ(61)، و في الأموال ردّها إلى مواضعها، (…) و سيأتيك من أمير المؤمنين أمران: لينٌ و شدّة فلا يؤنسنّك إلاّ الطاعة، و لا يوحشنّك إلاّ المعصية، و ظُنّ بأمير المؤمنين كلّ شيء إلاّ احتمالك على الخطأ، و إذا أعطاك الظفر على قوم فلا تقتلنّ جانحاً و لا أسيراً، و كتب في أسفل كتابه:
و تطلب رضائي بالذي أنا طالبه

فإنّك مَجزِيّ بما أنت كاسبه «(62).

(…)
إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها

فلا لا تلمني و الحوادث جَمّة

و على الرغم من معرفة عبد الملك بن مروان بسلوك واليه الحجّاج الدمويّ، فإنّه كان يرفض أن يُذَمّ أمامه، بل كان يدافع عنه و يوبّخ من يذكره بسوء. و يُروى أنّ إبراهيم بن محمد بن طلحة الذي كان من خاصّة الحجّاج، و ذا منزلة عظيمة عنده، قدم إلى عبد الملك بن مروان، و طلب منه أن يستمع إلى نصيحته التي لا يجد بُدّاً من ذكرها، فسمح له عبد الملك ابن مروان قائلاً: » يا بن طلحة، قل نصيحتك. فقال: تالله يا أمير المؤمنين، لقد عَمَدت إلى الحجّاج في تغطرسه و تَعجْرُفه و بعده من الحقّ و قربه من الباطل، فوليّته الحرمين(63)، و هما ما هما و بهما ما بهما من المهاجرين و الأنصار و الموالي الأخيار يَطؤهم بطَغام(64) أهل الشام، و رَعَاع لا رويّة لهم(65) في إقامة حقّ و لا في إزاحة باطل، و يسومهم الخَسْف(66) و يحكم فيهم بغير السنّة، بعد الذي كان من سَفْك دمائهم، وما انتُهك من
حُرَمِهم (…)، فقال له عبد الملك كذبْتَ (…) و ظنّ بك الحجّاج ما لم يجده فيك، و قد يُظنّ الخير بغير أهله، قمْ فأنت الكاذب… «(67).
و يبدو أنّ سيرة الحجّاج الدمويّة كانت محلّ استهجان و ذمّ عند معظم الفقهاء و المؤرخين الإسلاميّين. و يُروى أنّه » قيل للشعبيّ(68): أكان الحجّاج مؤمناً؟ قال: نعم بالطاغوت. و قال: لو جاءت كلّ أمّة بخبيثها، و فاسقها، و جئنا بالحجّاج وحده لزدناه عليهم و الله أعلم «(69). وها هو الدمّيريّ يذمّ الحجّاج قائلاً(70): » اللعين الحجّاج أخزاه الله و قبّحه«.
و ليست ملامح الحجّاج في ألف ليلة و ليلة بعيدة في الغرابة و التخيّل، بل يُمكن القول: إنّها قريبة إلى حدّ ما من ملامحه التاريخيّة، كما أرّخت لها المصادر الكثيرة، و هي في هذا لا تختلف عن ملامح الخلفاء الأمويّين و العبّاسيّين من حيث نقاط الالتقاء الكثيرة بين ملامحهم التاريخيّة، و ملامحهم في نصوص ألف ليلة و ليلة الحكائيّة.
انتهى المقال
الحواشي
الهوامش والمراجع
*****************






 
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سيرة الحجاج في حكايات ألف ليلة -ملامح الطغيان والاستبداد - د. محمد عبد الرحمن يونس د. محمد عبد الرحمن يونس منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي 5 07-08-2006 04:25 AM
الجزء الثانى (2) محمد الماغوط في الذاكرة المتجددة حسن غريب أحمد منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي 1 08-04-2006 01:37 AM
ثالث اثنين الميكانو و فلسفة ؟! سرمد السرمدي منتدى القصة القصيرة 0 13-02-2006 11:06 PM
نحو السهل الممتنع في فلسفة الفعل ! سرمد السرمدي منتدى القصة القصيرة 0 13-02-2006 10:57 PM
قصة قصيرة / الجزء الثانى معاذ رياض منتدى القصة القصيرة 2 25-01-2006 06:57 AM

الساعة الآن 10:22 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط