الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديــات الأدبيــة > منتدى القصة القصيرة > قسم الرواية

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-04-2024, 05:52 AM   رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
ابراهيم امين مؤمن
أقلامي
 
إحصائية العضو







ابراهيم امين مؤمن متصل الآن


افتراضي رد: رواية قنابل الثقوب السوداء - أبواق إسرافيل "الرواية المشاركة في كتارا 2019-2020


وظلا يتابعان أحداث المظاهرات على القنوات الأجنبيّة وبعض القنوات العربيّة.
قالت القناة: «وفي الشأن المصريّ، خرجتْ جموع الشعب المصريّ من مختلف المحافظات حاملين جالونات مياه فارغة، أما القاهرة فقد تمركزوا في الميادين الرئيسة وخاصة ميداني التحرير ورابعة؛ فضلاً عن وقفات احتجاجية أمام الوزارات ولاسيما وزارة الدفاع.»
أخبار هذه المظاهرات تأتي أولاً بأول إلى وزير الدفاع -مهديّ- والمجلس العسكريّ. ومهدي لا يؤمن بهذه الثورات، وظل في حالة غليان محدثًا نفسه: «لن أهدأ حتى تنتهي هذه الثورات بأمان.» بينما المجلس العسكري كثيرًا ما يخاطب بعضهم بعضا قائلين عبارة: «ها قد فعلناها، لقد نجحنا.»
بدأ الإعلام المصريّ يهتزُّ ويتذبذبُ في مناصرته للنظام بسبب تلك الجموع الغفيرة التي قد تتسبّب في عزْل الرئيس الحالي والمجيء برئيس يعمل على محاسبتهم، فآثروا الصمت.
أمّا يعقوب إسحاق فيتابع المشهد من خلال التواصل مع أعضاء الموساد من قلب المظاهرات قبل أن تُبث إخباريًا.
أدار فهمان إلى قناة أخرى تُبثّ من دولٍ تعارض النظام.
قال الإعلاميّون منها: «خرج المتظاهرون بعد نفاد الماء كلية من الدولة فضلاً عن قلة الزاد، يعلنون بسلمية تامة رغبتهم في تغيير النظام الفاسد، فواجههم النظام بالأسلحة الجرثومية والكيميائية حفاظًا على مؤسسات الدولة من الانهيار.»
علقّ جاك على الأحداث بأنّ رؤوس الحركات الثوريّة هذه من أعضاء الموساد الإسرائيلي. ومما قال أيضًا: «إنَّ أعضاء الموساد ظهروا بلحىً طويلة ونظموا أنفسهم فاندسّوا بين المتظاهرين لتشعل الموقف؛ فكانوا أعلامًا ورايات سارت خلفهما جموع الشعب المصريّ.»
وما زال الإعلاميّون يتكلمون، والبثّ مستمر لا ينقطع أبدًا.
حوّل فهمان القناة بيد مرتعشة فسمع لإعلاميّ إحدى القنوات التي تمالئ النظام الحاكم في مصر: «ولقد كان المتظاهرون يحملون جوالين تمتلئ بذخائر حية، وقد كان بعضهم يحمل أسلحة محرّمة دوليًا تمّ تهريبها عبر أنفاق سيناء، وقد قام الإرهابيون بحرق عربات الأمن، ولقد فشلوا في نسف مؤسسات الحكومة بالقنابل الذرية.»
ولقد كان مؤيد يتابع الأخبار من نفق الوادي الجديد فسمع هذا الكلام فانفجر ضاحكًا، حتى أنهكت قهقهاتُه أحباله الصوتية فسعل سعلات أدمعت عينيه، بينما عبد الشهيد قال هازئًا: «أحمد الله، أنّا بريء.»
ومن تل أبيب، نجد إسحاق يعقوب قد تملكته هيستريا من الضحك المتواصل.
قلّب فهمان القنوات بجنون بحثّاً عن خبر عن المجلس العسكريّ فسمع لجماعة من أفراد الشعب تقول: «كنّا نرابط من بعيد بجانب صناديق القمامة الفارغة انتظارًا للطعام الذي يأتينا من داخل الوحدات والكتائب في الجيش، وأحيانًا كانت تصلنا رسائل من الذين يأتوننا بالطعام، يقولون فيها بأن مهديّ يسلم علينا ويدعوننا بالتحلي بالصبر حتى تخرج مصر من أزمتها.»
سمعها فهمان فشعر بوجود أمل، وسمعها مهديّ فأجهش بالبكاء.
قال جاك معلقًا: «وهذه هي الحقيقة يا فهمان، لقد تراءى للغالبية مِن أعضاء المجلس العسكريّ الخروج على هذا الحاكم الدمية الخائن، وأنّ هذا في مصلحة البلد، بينما الموساد ينظر إلى الثورة المصريّة مِن زاوية أخرى، فزاويته هي رؤية الثورة بأنها فوضى ستؤدّيّ إلى حروب داخليّة وانقسامات داخل الجيش.» سكت هنيهة وأخذ نفسًا عميقًا ثم قال بفطنة: «وهكذا اتفق الاثنان على حتمية الثورة، لأن فيها إصلاحًا لكليهما.»
ومن داخل مبنى المجلس العسكري نظر مهدي إليهم بحنق وقال: «أنا أعلم جيدًا أنّكم تخططون للخروج عليه منذ عامين ولقد نهيتكم.»
قال أحدهم: «نعلم يا مهديّ أنّك تعرف، ولذلك اخترناك من بيننا لتأخذ بيد مصر وتخلصها مِن ذلك الخائن الغادر، ونجلّكَ ونقدّركَ بسبب زهدك في الحكم، وحبك وخوفك على مصر.»
ردّ مهديّ بصوت فيه حيرة: «وماذا علىّ أن أفعلَ الآن؟»
ثمّ قال بصوت مرتفع فيه سخرية: «أضربُ في الشعب بالسلاح النوويّ أمْ أجعله يعرّي الجيش ويطأ بأقدامه الزيَّ العسكري فيدنّس شرفنا؟»
فقالوا له قول الواثق المدرك: «اعقلَها يا سيادة الوزير، اعقلها يا مهديّ. أقولًُ لك ماذا يجب علينا فعله، نعزل الرئيس ونحاكمه ونعينك رئيسًا للجمهوريّة في انتخابات لاحقة.»
فردّ زاهدًا: «ومَن قال إنّي أريد رئاسة الجمهوريّة؟ أعلم أنّ كل الجيش يحبني، ومع ذلك لا أريد أن أنقلب على الرئيس، كما أني لا أحبّ الثورات. وأرى حتمية مجابهة الثورة بالحلم والرويّة.»
بينما هم على هذا المراء والجدال نظروا إلى شاشة التلفاز التي تبثُّ المظاهرات، فشاهدوا المتظاهرين ينادون بعزل الرئيس ومحاكمة رؤوس النظام الفاسد، كما نادى بعضهم بتبني مبدأ الاشتراكية وتفشيه فيما بينهم حتى تقلل من الفجوات الطبقية بين شرائح المجتمع المختلفة.»
نظر إليهم ولوّح بيده وقال لهم: «هذه الشعارات من تخطيط المنظمة الماسونيّة، ها هي تفعل الأفاعيل بنا، شيوعيّة واشتراكيّة وديمقراطيّة وما خفي كان أعظم.» ثمّ رفع سبابته قبالة وجوههم معاتبًا: «أنتم الذين أعطيتموهم الفرصة للتوغل والاندساس في صفوف المتظاهرين ليطالبوا بهذه المذاهب المدمّرة للمجتمعات العربية.»
ومن تل أبيب، قال كذلك يعقوب إسحاق كلمته تعليقًا على المشهد بتزامن غير مقصود مع كلمة مهديّ لأنّ هذا لا يرى ذاك والعكس: «ها قد نجحنا. » ورفع يديه إلى أعلى وأخذ يكرّر: «حققنا هدفًا في مرماهم، دخّلنا هدف.» ثمّ هاتف رئيس مخابراته قائلاً له: «أرسل المزيد من أفراد المنظمة.»
نظر مهديّ وكلمهم مستطردًا: «للأسف لم تتيحوا لي حلاً آخر، لابدّ من إنهاء الأزمة التي رسمتم ملامحها أيّها الأغبياء، فهذه المطالب الغريبة وهذه الدماء الفائرة ليس لها علاج إلّا عزله.»
قالوا بصوت واحد: «توكّلْ على الله.»
لوى مهديّ عنقه وكرّر كلمتهم بميوعة، فغرضه الاستهزاء بفعلهم: «توكّل على الله، توكّل على الله، إذن استعدوا لانقلاب قد يذهب بدماء آلاف الأبرياء إن لمْ ينجح، واعلموا لو دخلت القوات الأمريكيّة البلد فكلنا سنذهب وراء الشمس.»
نظر بعضهم إلى بعضٍ مبتسمي الثغور، ثمّ هبّوا بكلمة واحدة تنمُّ على توحيد القلوب والصفوف: «توكّل على الله.»
لم يهنأ فهمان بعيش مطلقًا بعد هذا الذي يحدث في مصر، فراشه لظىً، ونهاره كبد. يرى جاك حالته تلك ولم يألو جهدًا في مواساته، فكثيرًا ما يقول له بأنّ المجلس العسكريّ سيحتوي الموقف.» لكن حاله لم يتغير فقد سطت الكارثة على مداركه فشلت كلّ شيء فيه.
ولأول مرة يفتقده جاك، افتقده كثيرًا حتى اعترته العصبية في صحوه ونهاره لدرجة الجنون.
حتى إنه ذات يوم خرج وحده إلى الجامعة بعد أن فشل في إقناع فهمان بحضور هذه المحاضرة الهامة، فلمّا وصل جلس في مقعده، ونظر إلى مقعد فهمان الفارغ فاغتمّ وبكى، فجأة، جاء أحد الطلّاب وجلس في هذا المقعد، فنظر إليه جاك وقال له: «قمْ من هنا أيها الفتى المتسلّط.» فردّ عليه: «أنا لم أكن ساطٍ أيها الفتى المتعرّب.»
فقام جاك ورفعه بيدٍ واحدة وألقاه من نافذة القاعة، ثمّ ترك المكان يضرب بكلتا يديه وقدميه كلّ ما في طريقه.







بطل استثنائي
تناول بيتر صحيفة علمية حديثة الإصدار تتكلم عن مصادم fcc-1 بسيرن ليتابع أخبار ابن فطين. وأثناء تناوله لمعطيّات الأخبار قام بعمليات بحث بسيطة على الحاسوب ليعلم حجم الإنجازات العلميّة التي وصل إليها الفتى، فوجد -الانجازات- قد بلغتْ عنان السماء، وهي الآن على أبوابها تريد أن تطرق وتخترق كلّ الحُجب والأستار. فأعجب بذلك كثيرًا، ودفعه ذلك الإعجاب إلى مهاتفة مؤيد: «اذهبْ إليه يا ولدي كما قلت لك سابقًا.»
- «هذا ما نويت عليه بالفعل.»
- «رحم الله فطين، قد كان على حق، وهذا يؤكد أنه ذو فراسة منقطعة النظير.»
وفور أن أنهى مكالمته أرسل إلى عبد الشهيد -إنّه حافّ الشارب كثيف اللحية يلبس جِلبابًا قصيرًا يتعدّى ركبتيه أو كاد، وسروالاً يبلغ نصف ساقيه، يعتمُّ بعمامة بيضاء- ليصطحبه إلى مكان كان كثيرًا ما يجلس فيه وحده، وقال له: «يا عبد الشهيد، اِدفنّي هنا.»
- «أطال الله عمرك يا جدّي.»
ثمّ توكأ عليه قاصدًا حجرته ثمّ قال له: «يا عبد الشهيد، دعني اختلي بربّي ساعة أؤدّي فيها صلاتي، ولا تدع أحدًا يدخل عليّ.»
وفي خلوته قرر أن يترك لهذا العالم رسالة عامة؛ تحمل في مضامينها دعوة إلى السلام منوهًا إلى بشاعة الاحتلال الإسرائيلي واضطلاعه الصارخ في تأجيج الصراعات العالمية لاحقًا، فضلاً عن دور الدين في تأسيس هذا الصراع.
ومن أجل ذلك، رجع بذاكرته إلى الماضي، وبالتحديد لحظة هروبه مِن فندق هيلتون طابا حتى اللحظة الراهن -لحظة الموت- فأمسك بورقة وقلم ليضع رسالته - رسالة قصة أعظم خبير فيزياء طبية عرفه التاريخ-: «خرجتُ مِن الفندق خائفًا حزينًا، فقد هالني منظر صديق عمري وهو يموت تحت تأثير السمّ -وأعلمُ أنّ فرصة نجاته مستحيلة؛ لسمية البوتولينوم الشديدة - وخشيت أن يتبعني القتلة، فركبتُ سيارتي أعدو بها إلى حيث لا أدري، المهم أن أضمن ألّا يقتفي أثري أحد، فوصلت إلى إحدى الصحاري الفسيحة، عندئذ، اقتعدتُ الأرض، وتناولتُ حفنة مِن ثرى مصر وشممتها؛ فانتفض جسدي وارتعش، واغرورقتْ عيناي بالدموع على صديق عمري الذي اُغتيل بسبب هذا التراب الذي بيدي. ثمّ تأملته قائلاً: «التراب هذا في كلّ بلد، لكنه تراب من انتمى إليه، والشرفاء ينتمون إلى الأوطان الطيبة، وأنا أعشق تراب فلسطين. أعشق تراب فلسطين التي وما زالتْ بين أنياب منظمة صهيونيّة عالميّة. علىّ أن أصل إلى التراب الذي أحبّه، التحفه غطاءً وافترشه مرقدًا، وأناصره نصرًا مؤزرًا.
فوثبتني عزيمتي؛ فانتصبت قائمًا وعلى الفور هاتفتُ مؤيدًا الذي أعرف حبه لفلسطين جيدًا، ولا يجهل حبي لها -فلسطين- كذلك.
طلبتُ منه أن يأتيني. فآتاني مِن الوادي الجديد، واصطحبني مباشرة إلى منزله الكائن فيه. كلّمته على كلِّ ما يجيش بصدري وأخبرته بحادثة الفندق، وما كنت أنتوي فعله منذ أن جئتُ مع العالم المصريّ -ألا وهو مناصرة القضية الفلسطينيّة- وبالفعل قادني إلى هنا -نفق اتحاد المقاومة بالوادي الجديد- وكانت مهمتي القيام بعمليات زرع الوجوه لأفراد اتحاد المقاومة ليستطيعوا التخفّي والاندساس بين أفراد المخابرات الإسرائيليّة، وأقوم كذلك بإجراء عمليات لغير أفراد اتحاد المقاومة ليدفعوا لنا ما نستعين به على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولقد قمتُ بالعديد من العمليات وأفدتُ المقاومة بمليارات مِن الدولارات. وإنّى أعلم أنّ السي آي أي والموساد يجدّون في البحث عنّي، وسيعرفون لاحقًا أنّ بيتر لم يكن ناكرًا لمعروف بلده، بل أراد أن يسدي لها معروفًا بمناصرة القضية الفلسطينية بعد أن ارتكبت بلده -أمريكا- كبائر الذنوب بخذلانها.
ودومًا أسأل نفسي: «طول عمرك يا بيتر وأنت تبحث عن كينونة الإله ولم تهتدِ لشيء، طول عمرك تبحث عن الدين الذي تودّ اعتناقه ولم تهتدِ لشيء، الشيء الوحيد الذي اهتديت إليه أن تكون إنسانًا موحدًا يا بيتر، وأن تناصر الإنسان، ولكن أين التوحيد؟ في القرآن، أم الإنجيل، أم التوراة. أين المفرّ .. المفرّ .»
وألقيتُ الورقة والقلمَ، وحملت القرآن والإنجيل بقوة، وقلتُ الآن أبحث عن الإله فيهما، وقرأتهما، فوجدتُ الإله في كليهما، وحرتُ ولم أستطع الاختيار، فكتبت ورقة ووضعتها بين الكتابين المقدسين حتى يقرأها مؤيد ويرسلها إلى كل أديان الأرض، ثمّ ألقيتهما جانبًا وألصقت جبهتي بالأرض لأطلق آخر أنفاسي في هذه الحياة. والآن، تهدأ العيون وتنام يا بيتر، ويطيب المنزل إن شاء الله، اليوم ألقى ربّي بوضع خدي على ثرى وطأته أقدام رجال اتحاد المقاومة الفلسطينية ولي الشرف . إمضاء بيتر، رسولٌ للسلام.»
وأطلق أنفاسه الأخيرة وهو يعطر أنفه بثرى النفق. افتقده عبد الشهيد فهرول إلى خلوته فوجده قد مات، فانهمر دمع عينيه ثم ما لبث أن هاتف مؤيدًا ليخبره أنّ بيروفيسور بيتر انتقل إلى رحمة الله تعالى وقد أدّى صلواته قبل أن يموت.
وفور وصول مؤيد لتوديع الجثمان -قبل وضعه في غرفة التبريد العميق كما هو معتاد لمُتوفي أفراد الاتحاد- سأل عبد الشهيد: «أيّ صلاة أدّاها؟»
فأجاب: «لا أدري، كلّ ما قال لي: «يا عبد الشهيد دعني اختلي بربي ساعة أؤدّي فيها صلاتي ولا يدخل علىّ أحد.»، فسألته: كم ركعة ستصلي؟» وطأطأ رأسه وهو يلوح بيده اليمنى وقال: «سألته يا دكتور لأعرف أيصلي صلاتنا أم صلاة النصارى؟
فقال لي: «ألم يكن ربّ القرءان هو ربّ الإنجيل هو ربّ التوراة يا عبد الشهيد؟».»
- «وأين هو؟»
- «في الداخل.»
دلف مؤيد الباب ودخل، فوجد على صدره كتابيْن أحدهما داخل حافظة قاتمة والآخر عارٍ، أزاحهما ثمّ احتضنه وصرخ باكيًا بصوت متهدج متململ يصاحبه خنين: «والله لرائحتك وأنت ميتًا أزكى عندما كنتَ حيًا! ولم لا وقد عشتَ للحقّ،ِ ومتّ على الحقّ، وكنت مثالاً للعالِم الذي وظف علمه لمناصرة الحق، مناصرة الإنسانية التي تتبلور في أوج صورها عند مناصرة القضية الفلسطينية.»
وظلّ بجانبه فترة يمعن النظر في ملامحه الملائكية التي ودّعتْ الحياة، ثمّ رفع الكتاب العاري فوجده الإنجيل، وتلاه رفع الكتابِ الثاني وفتح السوستة القاتمة ليراه، توسّع بؤبؤا عينيْه وانكفأ بنصف جسده إلى الأمام وحدّق فيه، ثمّ فتحه؛ فوجده هو هو ما كان على حاشية الكتاب "القرءان الكريم" وكان هناك خيط رقيق في أوّل سورة المائدة. فوقع في نفسه أنّه كان يبحث عن الحقيقة.
فهمس له قائلاً: «أعتقد أنك وجدت الحقيقة، ولم لا وقد وجدتها من قبل في شأننا (يقصد مناصرة دولة فلسطين)، ولم ألحظك طول فترة بقائك لدينا أنّك صليت، لا صلاة المسلمين ولا صلاة النصارى، ولكني متأكد أن أمسكت رأس الحقيقة، ولقد استعصى علينا معرفة ذلك عنك لأنها -الحقيقة- كانت بداخلك لم تجهر بها.»
انتهى من حديثه له، ثم جلس بجانبه ساعات ليمتع أنفه برائحته، وتلذ عينيه بالنظر إله. ثم أخذ يتدبر في شأن الدينين، ومؤيد لا يؤمن إلّا بالإسلام كما قال ربنا "إنّ الدين عند الله الإسلام " لذلك تمنّى أن يكون بيتر تُوفي عليه.
ظلّ مؤيد على هذه الحالة، والحارس بالخارج يتعجّب من طول مكوث مؤيد حتى إنّه ذهب إلى عبد الشهيد يخبره بالأمر.
فقال له عبد الشهيد: «دعه، لعلّ الاستئناس بالأموات خير مِن الاستئناس بالأحياء في هذا الزمان ولاسيما عندما يكون المتوفي مثل بروفيسور بيتر.» وصمت متدبرًا وعيناه تذرف الدمع الحار عليه ثم دعا له: «الله يرحمك يا بيتر ويدخلك فسيح جنّاته.»
ولمّا همّ بالخروج لحظ الخطاب الذي سرد فيه بيتر كلماته فقرأه، وفور أن انتهى قال: «هذه رسالتك المقدسة إلى هذا العالم يا أبتِ؟ أتظن أن حسنات مناصرتك لنا ستغفر سيئات دولتك؟ أبتِ، إن الله لا يصلح عمل المفسدين، فهل تستطيع أن تصلحه أنت، هيهات، هيهات.»
دخل عبد الشهيد فوجده مؤيدًا يتحسر ويبكي فقال: «كفى يا أبتِ، كفى، لكفى وهيا نواري سوءته (يقصد تحنيطه).»
ردّ مؤيد متحسرًا: «لن نحنط بعد اليوم، فأنت تعلم أننا نحنط لأن بيتر الوحيد الذي كان يستطيع أن يزرع الأعضاء.»
قال عبد الشهيد: «أظنك تستطيع أن تعطينا كما كان يعطينا، و...»
قاطعه: «كان بارعًا ولا نظير له، ولا يمكن لأحد أن يعطي عطاء بيتر، لقد كان بطلاً استثنائيًا، يا عبد الشهيد، أؤمر قومك أن يصلوا عليه صلاة المسلمين قبل دفنه.»



المستحيل
بعد عدة أيّام من وفاة بيتر استقلَّ الطبيبُ مؤيد الطائرةَ المتوجّهة إلى جنيف لمقابلة ابن فطين، ومقابلته قد تكون فيها خطورة عليه، وذاك لأنّ فطينَ قد جاءه وفْد مخابراتي من السي آي أي ليحقق معه في شأن بروفيسور بيتر، وبالتالي فهم يرصدون الوجوه الغريبة التي تقابل ابنه لعلّه يمثل خيطًا لهم ليصلوا إلى بيتر رغم مرور أكثر من أربع سنوات على وفاته.
ومن المعلوم بالضرورة أنّ فهمان نفسه مراقب، من الموساد والسي آي أي معًا. ظل مراقبًا مدخل منزله ترقبًا لعودته، وفور أن رآه فهمان انطلق إليه مهرولاً ملقيًا بنفسه في أحضان مؤيد. فهو من رائحة أبيه، فضلا عن أن أباه أوصاه به، ولم ينس فهمان أنّه مَن أرسل له المال ليستكمل دراسته الجامعيّة والعليا، لم ينس كذلك الخطاب الذي أخبره فيه بوفاة والده، ولاسيما عبارة التوصية التي وصاه بها أبوه من جعل مؤيد سندًا له.
وأخذ يبكي بحرقة على كتف مؤيد وهو يقول بصوت متهدّج: «لِم لَمْ تراسلني طول كلّ هذه المدة؟»
فأجابه: «لدواعٍ أمنية يا ولدي.»
أدخله فهمان، ولقد لاحظ بأن أحد يرقبه، ولكنه لم يكترث هذه الساعة.
قال مؤيد: «بصراحة يا ولدي أنا جئتك في مهمة رسميّة.»
- «وأنا رهن إشارتك أبتِ.»
- «هل من أحد يقيم هنا غيرك؟»
- «لا.»
أخرج مؤيدٌ جهاز كشف التنصّت، وعندما اطمئن من عدم وجود شيء
تمتم بصوت منخفض: «أنا من أفراد المقاومة الفلسطينيّة.»
هبّ دهشًا كأنّه كان نائمًا، وسقط أبوه في روعه ومدى علاقته بالقضية الفلسطينيّة، ولذلك زايلته الدهشةُ ودنت منه الفرحة وقال: «إنّه خبر سعيد، أرجو أن يكون أبي منهم أيضًا.»
قال مطأطأ رأسه: «أبوك كان منّا يا ولدي، فقد ساعدنا كثيرًا.»
- «الحمد لله.» وشرع يدندن بالحمد والتهليل مترحمًا على أبيه.
أمعن النظر إلى فهمان وذكره: «أتذكر يوم أن رفع تذكرة الدخول في سيركه؟»
سرح كثيرًا وتذكّر يوم ضرَبه والده بشأن تجربة الحركة بتأثير الدماغ واتهامه لأبيه بالنصب والكذب، ووجد الإجابة على سؤال مؤيد عندما تذكّر قول أبيه: «لمّا الناس تدفع ضرائب لأجل المحافظة على هويّتهم وأعراضهم يكون هذا عارًا؟ لما دولة عربيّة تدفع لأخرى مِن أجل دفع ضرر المعتدي عليها يكون هذا عارًا؟»
ثم أجاب على نفسه بعد هذه التذكِرة: «لا لا يا أبتِ.»
قال مؤيد: «رفْْْع التذكَرةِ كان من أجلنا، من أجل أن يرسل لنا مالاً نتحصّن به، ولولا أبوك لهلكنا تحت الأرض.»
عندها سمع من مؤيد ما تخيّله منذ هنيهة فتأثّر بشدّة، اغرورقتْ عيناه ثمّ قال بصوت متهدج: «يا حبيبي يا أبي، لقد كدت أظلمك وأنت بريء، كان يجب عليك أن تخبرني حتى لا أسيء الظنّ بك.»
- «رحمه الله، كان أعظم الرجال.» ساد الصمت لحظات، ثم قذفه مؤيد قائلا: «فهمان يا ولدي، الأنفاق محاصرة بأدق الوسائل التكنولوجيّة، نريد وصول الإمدادات من الخارج لأفراد اتحاد المقاومة، نحن نتهاوى يومًا بعد يوم.»
ردّ بصوتٍ متهدّج وهو يكفكفُ دموعه: «الله ينجيهم، وما بوسعي أن أفعله؟ اؤمرني، رقبتي فداكم.»
- «نريد إيجاد وسيلة للدخول إلى الأنفاق والخروج منها دون أن يرانا أحد.»
- «مستحيل، العلم لم يصل بعد لهذه التكنولوجيا، العلم لا يزال عاجزًا عن إيجاد تفسير لبعض الظواهر الفيزيائية، والتخفي من ضمن هذه الظواهر.»
قال مؤيد متوجعاً: «لا يوجد حل إذن.»
- «يا أبتِ، إنّ عليكم من البداية أن تتنفقوا أنفاقًا بها مياه جوفيّة غزيرة، وأن يكون معكم خبراء في الطبِّ والزراعة وصناعة الأسلحة و... إلخ» وظل فهمان يتكلم ولم يبلغ كلام فهمان مسمع مؤيد؛ فقد لطمته الكارثة.
لقد لحظ فهمان توهان مؤيد، فأراد أن يغير مجرى حديث لا فائدة منه رغم الألم الساري به، ولذلك سأله: «أكيد أنتم مَن زرعتم له الرأس؟»
- «الله يرحمه، بروفيسور بيتر هو من فعل ذلك.»
دهش فهمان، ومن فوره اعتدل متسائلا بجموح: «تقصد بروفيسور بيتر العالم المختفي، أكفأ عالم فيزياء طبيّة عرفه التاريخ.»
ترحّم على بيتر بصوتٍ غير مسموع ثمّ جهر بقوله: «لا أمل إذن، يأتي الله بالحلّ مِن عنده إن شاء.»
ترك مؤيدٌ فهمانَ ومضى مكسور الخاطر قاصدًا العودة إلى مصر.







 
رد مع اقتباس
قديم 12-04-2024, 04:58 AM   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
ابراهيم امين مؤمن
أقلامي
 
إحصائية العضو







ابراهيم امين مؤمن متصل الآن


افتراضي رد: رواية قنابل الثقوب السوداء - أبواق إسرافيل "الرواية المشاركة في كتارا 2019-2020


صبيحة يوم مناقشة رسالة الماجستير لحظ فهمان -وهو في الشارع- وجود كثرة من رجال غرباء يتبعونه، فخشي أن يمنعونه من حضور رسالته بيد أنه تساءل من جديد: «لو أن هؤلاء يريدون أذيتي لآذوني منذ زمن، إني أظنهم من الموساد.»
ارتدّ خائفا قاصدا العودة إلى منزله -وهو منزل خاص به من منازل المصادم- وعندما دخل كان مصباحا حجرة نومه وردهة الشقة مضاءين، فلمّا أغلق الباب انطفأ مصباح حجرة النوم على الفور، فتأكد فهمان أنّهم يرقبونه من خارج المنزل وداخله أيضًا. فولى هاربًا متوجهًا إلى قاعة كلية العلوم.

رسالة ماجستير
اسم الطالب: «فهمان فطين المصريّ»
تخصص الرسالة: «الفيزياء النظريّة»
الموضوع: «إمكانيّة بناء مصادم fcc-2 لاكتمال النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات»
المشرف على الرسالة: «ثلاثة من أساتذة جامعة جنيف»
لجنة المناقشة: «لفيف من أساتذة كليّة العلوم بجنيف»
ومن الضروري معرفته أن اللجنة أجلت موعد المناقشة أكثر مِن مرّة بسبب الدور الخطير الذي قد تلعبه رسالته في الحرب المحتملة القادمة.
القاعة: «كليّة العلوم بجنيف»
تاريخ الجلسة: «في المستقبل»
تملأ الرهبةُ أعضاءَ فريق المناقشة بسبب خطورة ما قرؤوه في الرسالة، حيث وضع تصورًا لمصادم أسماه مصادم fcc-2، وإنه لتصور خطير؛ ويزيد من خطورته احتمالية حدوث حربًا نوويّة ولاسيما بعد نجاح الرئيس الأمريكي رامسفيلد -العميل الصهيوني- في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
أما الحاضرون، فقد كانوا شخصيات بارزة في العلوم الفيزيائية، ولم يكن ذلك فحسب؛ بل حضر أعلام ورموز سياسية لها ثقل رهيب في دولهم.
وكان من بين هذه الشخصيات العلية بروفيسور من الموساد، ولقد حضر خصيصًا ليحدّد مدى أهمية الرسالة المطروحة وخطورتها على الأمن الإسرائيليّ. ولقد حضر أيضًا رئيس جامعة بيركلي، ذاك الرئيس الذي كان يترقب هذا اللقاء على أحرّ من الجمر ليأخذ فهمان -إذا حصل على الماجستير - إلى أمريكا للوفاء بعهده الذي وعده إياه قبل الرحيل من كاليفورنيا (وعده فهمان مسبقًا ببناء المصادم على الأراضي الأمريكية).
أمّا مهديّ وميتشو كاجيتا فيتابعان اللقاء من خلال البثّ الهوائيّ للرسالة.
ولقد تحفز الناس أيما تحفز لحضور المناقشة لعلمهم السالف بمشاركته الفتى الأمريكي -جاك- في إطفاء حريق الجامعة.
ولكن هناك من حضر وتخفى تحت الأستار وهما فريقان: الأول الكيدون الإسرائيليّ، أما الآخر فهو الحرس الجمهوريّ المصريّ.
ولم يفت جاك أن يقف بجانب صديقه الأوحد في مثل هذه الظروف الحالكة، فجاك يتوجس شرًا من اللقاء لعلمه بخطورة محتوى الرسالة.

العرض التقديمي
جلس فهمان على طاولته وبجانبه حاسوب ذو شاشة عملاقة، يحتوي الحاسوب على صور للعديد من مكونات المصادم الهادروني المستقبلي fcc-1 الكائن الآن هنا في سيرن.
أخذ فهمان يشير بعصا في يده على تراكيب المصادم الحالي، ثمّ يوضّح طرق تطوير مكوناته ليصبح fcc-2.
وعندما قال: «هذا المصادم طاقته 400-500 تيرا إلكترون فولت.» صاح الحاضرون؛ فأوجس في نفسه خيفة؛ فتوقف عن الكلام. والصياح معزو في الأساس إلى حجم الطاقة الرهيبة التي قد تتسبب في فناء كوكب الأرض إذا ما ولدت ثقوبًا سوداء تشبع جوعها بالتهام ما حولها؛ مما يترتب عليه تضخمها. وبالتالي فلن تشبع حتى تلتهم كوكب الأرض كله، ثم تمتد بعد ذلك لتلتهم المجموعة الشمسية، ثم تظل على هذا المنوال حتى تلتهم الكون كله.
هذا التصور معروف لدى الفيزيائيين؛ بل لدى الطلبة المتخصصين في دراسة هذا المجال.
نادى جاك على فهمان وحفزه على التماسك كي يستطيع طرح وجهة نظره بثقة واقتدار.
فأكمل فهمان: «ليناك 4 الموجود حاليًا في fcc-1 -الذي يعتبر الحلقة الأولى في السلسلة التي تقوم بإرسال الجزيئات إلى داخل مُصادم الهادرونات الكبير وتسريعها من خلال ثلاث حلقات بداخله- لعب صبيان؛ لأنه سيعجز عن تسريع دفقات البروتونات الجديدة والتي تقدر ب 1000مليار بروتون، وأنّنا في حاجة لتطويره وخاصة الحلقات المتتالية الثلاث المسئولة عن زيادة سرعة الحزم تدريجيًا وضخّها داخل المصادم. لابدّ من تطويرها ليتناسب و fcc-2، لابد أن يطور ليصبح ليناك 64. ومغانط fcc-1 لم تكن أحس حالًا أيضًا، لأن ملاحتها سوف تعجز على توجيه الحزم وتسريعها داخل المصادم fcc-2 بسبب كثرة البروتونات الموجهة للارتطام، ولابد من تطويرها وزيادتها إلى 60000مغناطيس أفقيًا ورأسيًا، والعمل على زيادة درجة برودتها أكثر.»
وظل يتكلم على ما يربو عن خمس دقائق عن مكونات المصادم القديم وكيفية تطوره ليناسب الطاقة الجديدة.
وعندما قال: «لابدّ من بنائه لينقذ البشريّة من المستقبل القاتم، لابدّ من بنائه في.» تلعثم ثمّ صمْت يأسًا وهدته الحيرة والخوف فخرّ على كرسيّه مهدودًا.
تعجب أهل التخصص والساسة من قوله: «لابدّ من بنائه لينقذ البشريّة من المستقبل القاتم.»، وتساءلوا فيما بينهم عن مراد الفتى، كما أن تلعثمه يدل على أنه يضمر أمرًا فيه خطر على العالم على حساب دولته -يقصدون أمريكا- وطرحوا سؤالا هاما وهو: «هل يريد الفتى نصرة الجنس العربي على الأجنبي ببناء ذاك المصادم على أرض مصر.»
قام فهمان ليخرج نفسه من المأزق الذي وضع نفسه فيه قائلاً: «عامة فى صفحة 196-199 من الرسالة ستجدون كلَّ ما شرحته من تطوير للمصادم في جدول موازنات. هذا الجدول يبين إمكانيّة تطور fcc-1 إلى fcc-2 كما كان من قبل طُورlhc إلى fcc-1
ثمّ ألقى العصا وهو يقول: «بهذا المصادم الجديد المقترح في الرسالة سوف نكتشف غوامض الكون بسبب الأصدقاء الجُدد من الجسيمات التي من المتوقع تولّدها بفعل الطاقة الجديدة، مثل اكتمال النموذج القياسي، وخلْق ثقوب سوداء مجهريّة، والتي تمثل بوابات بُعديّة لأكوان أخرى.»
وفور ذكره ذلك هب الحاضرون وصاحوا به متهمين إياه بالخبل والجنون. عندها توجس مهدي شرًا فحفزه ذلك على مهاتفة الحرس قائلا: «استعدوا يا شباب، فيبدو أن الفتى لن يخرج من هذه المناقشة سليمًا.»
تسارعتْ كاميرات الصحفيين لتصوير المشهد الرهيب، أما الحاضرون والمشاهدون فرددوا قائلين: «لن تفتح لنا بوابة يا أبله، بل ستفتح لنا أفواه ثقوب سوداء.»
أمّا بروفيسور الموساد ففتح جواله وهاتف الكيدون بالخارج قائلاً: «تأهّبوا يا أبطال.»
وجاك يلملم كمي قميصه ويرفعهما إلى أعلى استعدادًا منه لخوض معركة حتى لا يذهب ضحيتها صديق عمره.
ورئيس لجنة المناقشة يدعو الحاضرين بالتزام الصمت حتى يؤدوا عملهم. ثمّ نظر إلى فهمان بتهكّم قائلاً: «أكملْ يا إسرافيل (يقصد فناء الكون من خلال الثقوب السوداء المتولدة من المصادم الذي ينوي بناءه).»
استطرد فهمان: «قد تكون الثقوب السوداء المتولّدة نتيجة استخدام هذه الطاقة من عمليات الارتطام حبلاً متينًا لربط الأبعاد المختلفة من خلال أنبوب الزمكان المشوّه.» صمت هنيهة ثم استأنف: «الأبعاد معكوفة ومطويّة ومختفيّة في قلب الثقوب.»

أغلق بروفيسور الكيدون هاتفه وهو يقول همسًا: «هل جُننت يا أحمق، تريد أن تأتينا بجنود من العالم الآخر لينضموا إلى العبيد من عالمنا هذا فيبطلوا مخططنا نحو قيام إسرائيل الكبرى؟ نحن ما زلنا نغرق في دمائنا من قسوة هذا العالم علينا.»
وظلّ فهمان يتكلم عن عشرات المعضلات الفيزيائية ويضع حلولاً لها من خلال مصادمه fcc-2، وختم حديثه بقوله: «وأريد أن أنوّه إلى...»
قاطعه رئيس اللجنة بسؤاله: «أين تودّ بناءه؟»
هب مهدي واقفًا، فقد أصابه الذعر من السؤال وعلق غيابيًا: «تبًا لك، ما شأنك أنتَ ببنائه يا أحمق؟ أم أنك مسلط من هؤلاء (يقصد إسرائيل بالعموم).»
أما بروفيسور الموساد فقد ظل مترقبا؛ تدور عينيه في رأسه يخشى أن يسقط صريعا لو ظهر انتماء الفتى لبلده وقرر بنائه فيه.
بينما بدأتْ الخواطر والذكريات تعصف بقلب فهمان، واسترجع كلامه في الماضي ومما تذكر قول أبيه له: «لا تعمل لديهم يا ولدي.» ثم تذكر وعده لرئيس ناسا ببنائه في أمريكا، فتصارعتا الرغبتان بداخله. وظل أمر أبيه يطرق أذنيه حتى تألم أيما ألم، بينما عيناه تكادان تكفا على إثر مناشدة رئيس الجامعة له من خلال إيماءاته ببنائه في أمريكا كما وعده.
فاستغاث فهمان من الرمضاء بنار الجحيم محاولا الإفلات من الإجابة عن السؤال؛ فأثار قضية هي أم كل الأخطار فقال: «لا تعنينا الأبعاد المتولدة من الثقوب السوداء وإنما تعنينا قنبلة الثقب الأسود.» لم يعبأ رئيس اللجنة بهذا القول وإنما أصر على سماع الإجابة على سؤاله قائلا: «قلت لك أين تودّ بنائه؟ لن تنال درجة الماجستير حتى تُعلم اللجنة أين تودّ بنائه حِفاظًا على الأمن العالميّ.»
في هذه اللحظات العصيبة ساد الصمت الرهيب الذي ملأ أركان القاعة وما حواها، ولكن تبادل النظرات بين البعض منهم وتركيز نظر بعض آخر على وجوه بعينها كانت السمة البارزة التي اعترت الجميع.
لكن معظمهم يركز بصره على فهمان انتظارًا لما سوف يجيب به على رئيس اللجنة.
فجاك ينظر إلى صديقه بإشفاق شديد، وبروفيسور الموساد يتوعد في روعه فهمان بالويل إذا كانت رغبته بناءه في مصر، والرئيس مهدي يراسل حرسه مجددًا استعدادًا لخوض ملحمة قتالية صعبة؛ إذ إنه يتفرس في فهمان الخير كما يتفرس أيضًا تعرض الفتى لشر يحيق به من بعض الموجودين بالقاعة. أما ميتشو كاجيتا فكل ما يرجوه أن يُبنى ذاك المصادم على أرض يستطيع الخروج والدخول إليها للشروع في تنفيذ مخططه القذر (وهو محو أمريكا كما ستبين الأحداث اللاحقة) عن طريق بعض التجارب التي يتوقع منها صنع قنبلة الثقب الأسود التي جهر بها فهمان دون وعيٍ منه.
وهنا بدأ الصراع الداخليّ يعاوده مرّة أخرى وبقوّة جامحة، وشرع يفكر في أمريكا وجاك وما فعله رئيس الجامعة له من تزكية مكنته من تسطير رسالته الآن، ولقد لمح في عينيه التأنيب والتوجع عن فعله، بينما على الجانب الآخر نجد أبيه مطلٌ من بين السحاب بفمه العطر يقول: «لا، لا تعمل لديهم.»
حاول فهمان أن يستنهض عزيمته علها تساعده على تحريك لسانه الملتصق بسقف حلقه، ازدرد ريقه ثمّ تابع التمتمة حتى بلغتْ حدّ الهذيان، وفجأة أحسّ بألم مفاجئ في الظهر، وتنميل في أطراف الجسد، كما أمسك بطنه متألمًا، وضاق تنفّسه وتعرّق عرَقًا شديدًا. ولم يشعر بما يدور حوله.
وتأكد بروفيسور الموساد أن فهمان يدين بالولاء للعرب بصفة عامة وبلده مصر بصفة خاصة من طول فترة صمته، حينها راسل فرقة الكيدون يأمرهم بقتل الفتى على الفور.
ومن نظرات بروفيسور الموساد على الشاشة التي تفرسها مهدي، ومن خلال حركة شفتيه -فهو يعرف اللغة العبرية- تأكد أن الخطر يحدق بفهمان فأمر هو الآخر بالالتفاف حول الفتى وعمل درع بشري حوله كي لا يصيبه أي أذى.
وبالفعل تمّ الاقتحام وبدأ الرصاص الحيّ ينطلق من مسدسات فريق الموساد، وبدأ فهمان يترنح في شلله إثر المعركة النفسيّة الرهيبة التي دارتْ بداخله وهو استحالة تحقق أمرين متضادين -الأول رغبة أبيه، والآخر رغبة رئيس جامعة بيركلي- تلك المعركة التي فُُرضتْ عليه وكانت بمنزلة مسرحيّة دراميّة فتكتْ بقلبه. وكلّ مَن في القاعة ولوْا هاربين مذعورين بمجرد إطلاق النار، والعالم كلّه أمام التلفاز في ذهول من الأحداث.
جرى أحد أفراد الأمن المصريِّ المدرّع بقميص رصاص نحوه ليجنّبه وصول الذخيرة إليه، لكن الرصاص قد فجّر رأسه وخرّ ميتاً.
أسرع كيدوني بسلاحه إلى حيث يرقد فهمان الطريح أرضًا، فقد نهض مِن بين صفي الدرج وكان جاك جالسًا في الصف الثاني على حافة الدرج فجنّدله فوقع على بطنه ثمّ قفز جاك عليه منقضّاً وأخذ المسدس منه وأطلق عليه رصاصة في قدمه، بينا الحرس الجمهوري المصري يردف بعضهم بعضا متسورين حول فهمان لإنشاء درع غير قابل للاختراق.
تبادل أفراد الكيدون والحرس الجمهوري إطلاق النيران فسقط على إثره معظم أفراد الحرس الجمهوري، عندها تأكد جاك من أنهم لن يتركوا فهمان حيا، فأزمع على تصفية أفراد الكيدون، فأطلق عليهم وابلا من الرصاص الحي وهو يتحرك منخفضًا بسرعة رهيبة حتى أسقطهم جميعًا غارقين في دماء أقدامهم.
ثم انطلق بسرعة الفهد، وأمسك فهمان بأنياب اللبؤة الحنون محاولة الهروب به خارج القاعة محل الخطر، وعندما همّ بالخروج به وجد بعض أعضاء الحرس الجمهوري متجهين نحو الباب فعلم أنهم يريدون أخذ فهمان، فلما وصلا معًا تراءى لجاك أن أفضل مكان آمن له أن يعود إلى بلده، فأعطاهم إياه كنوع من حمل الأمانة وإيصاله لصاحبه وعيناه تفيض من الدمع حزنا أن يفارق صديق عمره إلى الأبد.
نظر كبير فرقة الكيدون نظرة ثاقبة إلى زملائه المطروحين أرضًا والدماء تنزف مِن أقدامهم -وكان يحمل مسدسًا وهو من أبرع القتاليين على مستوى العالم- ثم نظر إلى تسليم فهمان على باب القاعة ولم يعبأ بهروبه أيضًا، كل ما عناه أن لا ينهزم من أحد،
فألقى مسدسه وأشار بسبابته إلى جاك أن هلمّ إلىّ -إشارة منه إلى قدرته الخارقة على هزيمته، وقد أخطأ، أخطأ كلُّ مَن لا يعرف جاك سواءٌ في قدرته البدنيّة أو العلميّة أو حتى الخلقيّة - فانقضّ جاك عليه ولكمه ثمّ حمله فوق كتفه وأداره بحيث أصبح رأسه في الأسفل وقدماه في الأعلى ثمّ أسقطه ليرتطم رأسه بالأرض، حاول الكيدوني النهوض فما استطاع.
توجّه بروفيسور الموساد سريعًا خلف جاك ومعه عصا غليظة وهمّ ليضربه في رأسه ولكنّ أحد أفراد حرس مهديّ قد لكمه فأسقطه أرضًا.




«الغائث والمستغيث»
عاد جاك إلى واشنطن بعد حادثة جنيف مباشرة، وحاول الاتّصال بصديقه ولكن دون جدوى؛ فالهاتف مغلق على الدوام، حينئذ قرّر النزول إلى مصر
وحدّث نفسه قائلاً: «غدًا أسافر.»
اتّجه إلى ناسا وبالتحديد أحد المراصد الأرضيّة الخاصة بها ليمارس بحوثه ورسالته حول النجوم والثقوب والسوداء.
وأثناء ما كان يقوم بمعاينة منطقة فضائيّة حول حافة المجموعة الشمسيّة الخارجيّة -وبالتحديد منطقة سحابة أورط- من خلال أحد التلسكوبات الأرضيّة شاهد نجمًا يمرّ بها وهو يقذف مقذوفات أمعائه بطريقة هائلة.
امتقع وجهه وتفكّكت أوصاله -لأنه يعلم أن مثل هذا القذف يعني موت النجم- وتساءل مندهشًا وهو يرتجف، ولسانه لا يكاد يتحرك: «يموت هنا؟!» ثم ما لبث أن خرّ على الكرسي حيث ما عادت تستطيع قدماه تحملاه، ثم تماسك مجددًا فوثب واقفًا ليعاين من جديد، فلم يجد شيئًا مختلفًا. أسرع إلى رئيس ناسا على الفور وحدثه بمعاينته. فانزعج لانزعاج جاك، وبالفعل قال له مدير ناسا بصوت
متحشرج: «أفزعتني، أتقصد أنّ النجم سيموت وبعدها يتحول إلى ثقب أسود؟»
- «نعم.»
- «مستحيل.» همس لحظة ثمّ قال مستبينًا بعد أن أطرق رأسه: «علينا بإعادة المعاينة يا جاك، سلّطْ على النجم التلسكوبات الفضائيّة الخاصة بنا، وكذلك المحمولة على متن الأقمار الصناعيّة، ومسبارات الفضاء العميق لتعطينا تحليلاً دقيقًا عنه مثل: كتلته -المسافة بيننا وبينه - مقدار مقذوفاته إشعاعاته. حتى نعرف ما سيؤول إليه النجم بعد موته.»
على الفور اتّصل رئيس ناسا بالمسئولين عن التلسكوبات بوكالته ليقوم جاك بتنفيذ أمر رئيس ناسا.
وتمت المعاينة والرصد بالفعل ثمّ أُرسلت الصور إلى ناسا. بعد عدة ساعات فقط اجتمع خبراء ناسا لتحليل الصور وإحصاء النتائج.
نظر بكْ إلى صور عدسات الجاذبية -التي ترصد مسارات الضوء المنبعث من النجوم وانحناء الضوء المار بها بسبب جاذبيتها فقال: «إنّ النجم على وشك تفريغ كل وقوده النوويّ.»
كما أمسك جاك بصورة التحليل الطيفي التي رصدتها التلسكوبات الفضائية فقال على الفور: «النجم يحتضر بالفعل.»
وبعبقرية جاك أمعنّ في صورة النجم وعلّم بالقلم على بعض النقاط في الصورة ثمّ أعطى بيانات حالته الاجتماعية والسياسية حيث قال: «إنّه من النجوم السريعة، يبدو أنه انفلت من تجمعه النجميّ وتخلص من جاذبيتهم بسبب سرعته الرهيبة حتى وصل إلى مقدمة السحابة، والآن هو على بُعد سنة ضوئية واحدة من الأرض، وحجمه مساوٍ تقريبًا لحجم الشمس .»
قال رئيس ناسا وهو يناول جاك صورة: «انظر جاك لهذه الصورة.»
حدّق جاك فيها ثمّ ناولها إلى بكْ فقالا في نفس واحد: «إنّها بصمة أبخرة مائية.»
واستطرد بك: «بناء على هذه البيانات التي أتتنا فإنّه لو انفجر فسيتحوّل إلى قزمٍ أبيض.»
علق جاك: «بل إلى ثقب أسود.»
فرمقه كلّ مَن في الاجتماع رمقة استهانة واستخفاف -لأن النجوم الصغيرة لا تتحول مطلقًا إلى ثقب أسود.»
أمّا مدير ناسا فقد ظلّ حائرًا بين رأي الخبراء ورأي جاك فصمت ولم يعلق للحظات لأنه يعلم عبقرية جاك جيدًا، ثم قال يائسًا لعدم تأكده من أحد الظنين: «علينا باستمرار تسليط التلسكوبات الفضائيّة التابعة لها لرصد صرخاته المحتملة قبل موته كمحاولة أخيرة ونهائيّة لتقييم ما سيؤول إليه ذاك النجم المارق.»
فقالوا له: «الأمر منتهي سيادة الرئيس، هذا نجم لو مات فلن يتحوّل إلى ثقب أسود لصغر حجمه.»
نظر جاك نظرة استعبار ثم همس في نفسه: «يبدو أن الأرض ما عادت تطيق تحمل أقدام هذا العالم المارق فنادت إلى السماء لتغيثها.»







 
رد مع اقتباس
قديم 22-04-2024, 03:59 AM   رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
ابراهيم امين مؤمن
أقلامي
 
إحصائية العضو







ابراهيم امين مؤمن متصل الآن


افتراضي رد: رواية قنابل الثقوب السوداء - أبواق إسرافيل "الرواية المشاركة في كتارا 2019-2020


***

وأخيرًا ..اِنجلى الحقُّ محلّقًا بأجنحة الملائكة.
فور وصول الطائرة في مطار القاهرة تم نقل فهمان إلى مشفى القوات المسلحة مباشرة. ومن التحاليل تبين أنه مصاب بجلطة دماغية. حضر الرئيس مهدي ليطمئن عليه، فقالوا له بأن فهمان في غرفة العمليات. وأجريت له العملية وقد نجحت بامتياز.
ترك المشفى ثم عاود بعد أيام ليطمئن عليه مجددًا. مدّ الرئيسُ مهديّ ليصافح فهمان قائلاً له: «حمدًا لله على السلامة يا عالمنا العزيز.»
أخبره الرئيس بأنه كان تحت أعين المخابرات المصرية طيلة الفترة الماضية، فسر فهمان بذلك، وقد وجد أنه قد أتيحت له فرصة سانحة
لردّ شرف أبيه الذي لطخه أمن الدولة سابقًا -عندما اتهم بالدجل والشعوذة- وسأله مهديّ : «أتذكر اليوم الذي أُطفيء فيه مصباح حجرة نومك؟»
أجاب: «أذكره جيدًا سيادة الرئيس.»
قال مهدي: «أن من أطفأه كان أحد رجالنا، كنا نراقبك في صحوك ونهارك دون أن تدري حتى لا يمسك أحد بسوء.»
ساد الصمت لحظات، كان خلالها ينظر فهمان خِلسة إلي الرئيس ويقول في نفسه: «ليتك تفتح ملف أبي.» بينا الرئيس كانينظر إليه قائلاً لنفسه: «سبحانه، يخلق من ظهر العالم فاسد ومن ظهر الفاسد عالم.» ثم ّ وثبَ واقفًا ونظر إلى رجاله قائلا: «الحمد لله، لقد لطف به وأنقذه من براثن الصهيونيّة.» واتجه ببصره مرة أخرى إلى فهمان وقال: «تماثلْ للشفاء يا فتى؛ فمصر في حاجة إليك، سوف أحقق لك كلّ ما تريد، فقط قمْ وتماثل للشفاء.»
كانت كلمات الرئيس الأخيرة لفهمان بمنزلة عودة الروح إلى جسده، حتى إنّ الكلمة ما برحت تفارقه حتى تماثل للشفاء فيما بعد في غضون أيامٍ قلائل.
بعد مغادرة الرئيس مباشرة ظلّ فهمان يفكر في كلمات الرئيس الأخيرة، وأول ما تبادر إلى ذهنه كيف يبرّئ أبيه.
فتح هاتفه ليطمئن جاك بأمره، فوجد رسائل تقول بأنه اتصل به كثيرًا.
كلمه وطمأنه بالفعل، وقد صمم فهمان على عدم الحضور لكثرة انشغاله في ناسا، واستحلفه بألا يأتي فامتثل.

لحظات، وطرق أحد الحرس المكلف بحمايته ليخبره بوجود زائر يقول بأنه خاله مؤيد أصيل.
فسرّ فهمان وأشار إليه بدخوله على الفور.
قال مؤيد: «أنا جئت لأطمئنّ عليك، والحمد لله على نجاتك.»
قال فهمان: «الحمد لله، وشكرًا لك أبتِ.»
- «لا داعي لأثقل عليك لأنّي بالفعل أجد حالتك جيدة وليست خطيرة مطلقًا، ولدي، أنا في مهمة لمدة طويلة، ولن أرجع قبل شهور، ولقد رأيت موكب الرئيس مهديّ منذ دقائق، ولقد علمت بكلّ ما حدث لك في جنيف، ودور الأمن المصريّ في إنقاذك.»
- «رئيس عادل، وإني أحبه.»
شعر فهمان بأن مؤيد يود قول شيء ولكنه متحرج، وبالفعل، بدأ كلامه بخجل شديد وهو ينظر إلى الأرض: «أريد أن أُخبرك بأمر يخصّ والدك.»
فانتبه فهمان بشدة، وتأكد بأن مؤيد يخفي عنه شيئًا، فقال جامحًا وهو يركز نظره عليه: «تكلم يا أبتِ.»
- «ألم تقل منذ قليل بأن الرئيس رئيسكم رئيس عادل؟»
- «بلى.»
- «إذن، آن الأوان لردّ كرامة أبيك وشرفه يا ولدي.»
- «وهذا ما انتويت فعله بالضبط، فأبي لم يكن مشعوذًا أبدًا.»
- «المسألة ليست مسألة دجل وشعوذة، وإنما، إنما..» تمتم مؤيد لحظات ثم قال بصوت حزين: «أمن الدولة أحرق جثة أبيك.»
تفجّع فهمان على الفور، وحزن حزنًا شديدًا ظهر في انهمار دموعه التي غدت تغطي وجهه، ثم قال له بصوت منخفض: «كيف ذلك؟!»
- «كانوا يخشونه، والرئيس السابق أراد محو قضيته بلا أدنى أثر.»
- «لماذا؟»
- «كانوا يخشون من تعاطف الجمهور معه عندما يعلمون بموته لأنه دخل قلوبهم، والرئيس السابق كان ظالمًا ومواليًا لأمريكا، ومعلوم دوره البارز في خدمة المخطط الصهيوني الشرير.»
- «فعلا، لقد عاش أبي وما آل جهدًا في خدمة أهله من أبناء وطنه.»
مضى مؤيد، وقد خلف وراءه همًا ثقيلا على قلب فهمان إضافة إلى حزنه الشديد عما حدث لأبيه.
بعد أيام جاء اثنان من قصر الرئاسة ليصحباه إلى الرئيس مهدي.
وفور دخول فهمان سلم عليه ثم قال: «أنا سعيد بسيادتكم، وأأمل أن تنهض مصر بكم.»
- «بِِك.»
قال دهشًا: «بي أنا؟!»
- «نعم، بك،المصادم، مصادم الرسالة.»
سكت هنيهات يترحم فيها على أبيه في نفسه عندما علم مرام الرئيس مهدي، بعدها قال بوجه متهلل: «أتقصد سيادتكم بناء المصادم على أرض مصر؟»
هزّ -مهدي- رأسه بالإيجاب دون أن ينبس بكلمة.
قال فهمان بدهشة: «قد يتكلف مممم..
أردفه مهدي: «ليتكلف ما يتكلف، مائتا مليار دولار مثلا، ثلاثة، الذين حفروا قناة السويس وبنوا السدّ العالي قادرون على بناء مصادم كهذا، فهمان مصر فيها رجال (يتكلم وهوقابض على يده اليمنى ورافعها إلى أعلى) والجيش كلّه رجال، لا تخفْ ولا تحملْ همّاً، قلْ أنت موافق ودعني أقوم أنا بالترتيبات اللازمة.» صمت هنيهة أخرى ثمّ قال: «أتعلم لِم أردت تصميمه على يديك؟»
- «لِم سيادة الرئيس؟»
قال مكوّراً يديه بحيث باطنيهما في تلقاء وجهه ورافعهما إلى أعلى بمحاذاته: «لأنّي أريد أن يُبنى بأيدٍ مصريّة.» ثمّ أومأ بسبابته إليه: «وأنت صاحب الفكرة، ولن يستطيع بناءه إلّا أنت، وأرجو أن يكون بناءك له عن علمٍٍ لا عن دجلٍ وشعوذة.»
ضربته الكلمة في أوردة قلبه فانتفض جسده على الفور، وانهمرتْ الدموعُ من عينيه وقال بصوت متهدّج من أثر البكاء: «أبي لم يكن دجّالاً ولا مشعوذًا؛ بل كان وطنيّاً عالمًا، ولولاه ما كنتُ أنا هنا الآن، وقد ساعد المقاومة الفلسطينيّة التي تفضّلتم سيادتكم وساعدتموها من قبل بتمزيق الاتفاقيّة الرباعيّة، وقد حاول الأخذ بثأرنا من قاتل عالم الفندق، بيد أنّه لم يفلح، وخاف علىّ فقام بزرع وجهه، زرعه له بروفيسور بيتر، وكان برنامجه السحريّ يؤديه بقوت يومه، وكان يكره الثورة، والصراع النفسيّ الذي حدث بداخلي كان صراعًا بين أمريكا التي أنعمت علىّ وبين وصية أبي ألّا أعمل لديهم وأنّ تراب بلدي أولى بي، وقال لي لو وفقك الله يا بني فلا تترك رئيس بلدك.»
بعدها رفع فهمان يده اليمنى إلى السماء مشيرًا إلى الفضاء ودموعه تزداد انهمارًا قائلاً: «وبعد كلّ هذا يتناثر رمادًا محترقاً في الهواء، هذا هو أبي، هذا هو أبي، هذا أبي.»

انتفض مهدي من مكانه وسأله: «هل تعرف مكان بروفيسور بيتر يا ولدي؟»
- «لا والله.»
- «وكيف علمتَ بأمره مع أبيك؟»
كذبه وقال: «مِن أبي.»
- «وكيف عرفت أنّ أباك ساعد اتحاد المقاومة؟»
كذبه مجددًا: «من أبي.»
شعر مهدي بأن فهمان كذبه بشأن إعلامه بمصدر معرفته بأمر بروفيسور بيتر، وكذلك بمصدر معرفته بشأن مساعدة أبيه لاتحاد االمقاومة، ولذلك قال مهدي في نفسه: «كذبتني يا بني! لا بأس، لا بأس، يبدو أن هناك شخصًا أخبرك بأمر أبيك وتود عدم البوح باسمه حتى لا يتعرض للخطر.»

وفجأة قال له مهدي وهو مطأطأ الرأس: «صدقتَ يا فتى، صدقت، لكن أخبرني، أمتأكد أنت أن أباك هو كما أخبرتني؟»
فهمان بصوت متهدج: «والله كان كذلك، والله كان كذلك.»
واستدعى مهدي رئيس المخابرات وقال له: «تحريّاتك يا سيادة اللواء غير دقيقة، وسأحاسبك على ذلك، أعدْ تحريّاتك من جديد حول المدعو فطين المصريّ.» ثمّ أشار إلى فهمان بسبابته قائلاً: «والذي هذا هو ابنه، ولن أتركَ هذا الأمر، ولن "ينفى وهو ناظر إلى فهمان الذي خنّ من البكاء" اتركْ هذا الفتى حتى تأتيني بالحقيقة التي أخفيتها عنّي سيادة الرئيس"يقولها سخريّة منه".»
رد رئيس المخابرات: «سمعًا وطاعة فخامة الرئيس، أمهلني ثمان وأربعين ساعة فقط.»
قال مهديّ : «ثمان وأربعين ساعة ليس أكثر، أريد أن أعرف أكان دجّالاّ ومشعوذًا أم كما يقول هذا الفتى وطنيّاً عالمًا.» صمت هنيهة ثمّ أردف: «خذْ فهمان وسله عن أبيه، ثمّ خصص له مكانًا يقيم فيه بالقرب مني .»
وفور خروجه كان مهديّ يخط جواب عزله من منصبه مع عدم المحاسبة لدواعٍ أمنية.
وبالفعل فور انتهاء اليومين حضر رئيس المخابرات قصر الرئاسة وقد كان فهمان حاضرا -فقد استدعاه مهدي- وقال: «سيادة الرئيس، بعد البحث والتقصي مما قاله الدكتور فهمان تبيّن لنا أنّ نظام الرئيس المخلوع هو مَن اتهم أباه ظلمًا بالدجل والشعوذة، ولقد تحرّينا أمر واقعة الفندق الخاصة بالرجل -رحمه الله- فتبيّن لنا بالفعل وقوع معركة شرسة في الفندق بينه وبين أحد أفراد فرق الكيدون الإسرائيلية، ولقد غيّر وجهه آنذاك خشية القبض عليه مِن الموساد أو الأمن المصريّ، إذ كان يظنّ أن كيدون الموساد قد مات . وقام بعمل سيرك في الشارع بتذكرة رمزيّة من أجل الإنفاق على تعليم ولده إذ كان عازمًا على تسفيره لاستكمال تعليمه في أمريكا، ولم تأتنا أخبار بشأن التحاقه بأنفاق اتحاد المقاومة أو الإنفاق على حقول القوى التي حصّنوا أنفاقهم بها و..»
صرخ فهمان مقاطعًا: «أبي لا نظير له، حمى المجاهدين وحمى الأنفاق و ..»
قاطعه مهديّ قائلاً: «هون عليك يا فهمان.» ثم نظر إلى رئيس المخابرات داعيًا له باستئناف كلامه.
استأنف: «وتبيّن لنا أنّه حصل على أموال طائلة من خلال ألعاب سحرية تعجيزية، ولم ندرِ أين ذهبتْ، ولقد أخبرنا أحد الفيزيائيين أنّ ألعابه تنبع مِن قوّة في دماغه ولعلّها الخلية الإلكترونيّة التي أخبرنا بها الدكتور فهمان، ولقد مات أبوه قبل أن يأتيه وفد المخابرات الأمريكيّ ليحقق معه بشأن بروفيسور بيتر. قامتْ أمن الدولة بحرْق جثته لدواعٍ أمنية، فخروج جثته إلى الشارع قد تحدث ثورة عبر رصدها من صحف المعارضة وتتفكك الدولة وتنهار ال..»
قاطعه مهديّ قائلا: «حسبك، انصرف.»
نظرَ إلى فهمان فوجد الدمعة على خدّيه، قال له بصوت فيه مودة: «اذهبْ أنت الآن يا ولدي.»
وفور خروجه وجد مجموعة من الرجال يصحبونه، فسألهم عن شأنهم فقالوا بأن الرئيس مهدي كلفهم بحراسته في النوم واليقظة

***
أليس الربّ بالمرصاد؟!

كرّس جاك حياته لدراسة الثقوب السوداء الفضائيّة وكلّ ما يتعلق بها مذ أن شاهد نجم سحابة أورط؛ وعلى ذلك، فقد قرر أن يرابط حول المراصد لمراقبته حتى يسارع في إدراك العالم قبل أن يتحول إلى ثقب أسود حسب ما يظن؛ وإن كان يأمل أن يتحول إلى قزم أبيض بحسب ما ارتأى خبراء ناسا.
وعلى طول فترات المرابطة وهو يردد قول واحد وهو: «نفسي فداءً للبشرية.»
وكثيرًا ما كان يفكر في شأن هذا النجم، ويتساءل قائلا: «لماذا ساقه الرب إلينا في هذا التوقيت بالأخص؟!»
وأجاب بنفسه: «أيكون عقابًا للعالم بسبب تناحره الذي قد يؤدي إلى قيام حرب نووية؟ أم يكون ردءًا لهذا العالم حتى لا تُُقام هذه الحرب؟»
تبسّم ساخرًا مستعبرًا عندما استحضر في نفسه حالة الناس الوحّشية ورد فعل الثقب معهم، حيث إنّهم تذئبوا، وتثعلبوا، فنصبوا كمائن العنكبوت ليمصّوا دماءَ بعضهم بعضًا، وبنوا حضارات العناكب في كل مكان، وها هي السماء تنتفض انتقامًا لتغيث الأرض فتفنيهم وحضاراتهم العنكبوتية الحمقاء.
أليس الربّ بالمرصاد؟
ثمّ عاود وتعجّب من شأن النفس التي جُبلت على الظلم فقال: «ولِمَ كلّ هذا وقد منحها الله كلّ سبل دعم الحياة ووهبها ما يُبقي على حياتها؟»
وبينما تصارعه هذه الخواطر رن جرس هاتفه، إنه فهمان.
وبعد أن تبادلا كلمات الترحيب أخبره فهمان بما فعله الرئيس مهديّ بشأن تَبْرِئةً والده، فسُرّ جاك بذلك أيّما سرور رغم الهمّ الساري بأوصاله بشأن توحّش الناس.
سأله فهمان عن أحواله، فأجابه جاك بكل ما يدور بخلده بشأن نجم سحابة أورط.
قال فهمان بغضب: «ما أرسل به إلّا ذاك الملعون إبليس وأعوانه.»
- «وما شأن إبليس بالثقب؟»
- «هذا الثقب أرسله الله انتقامًا من الناس بما كسبت أيديهم بعد أن أوحى إليهم ذاك الملعون المسمى بإبليس.»
- «أرى أن النفوس لا تحتاج إلى وحي الشياطين يا فهمان لكي تفجر أمامها.»
- «على كل، افعل أنت ما يحلو لك، وآمن بما تعتقد، أما أنا، فلن يقر لي قرار، ولن ينام لي جفن، ولن يطيب لي فراش حتى أدق عنق ذاك الإبليس، وأقسم بربي لأذهبن إليه عبر بوابته، عندئذ، سيقف أمامي صاغرًا لأعد عليه أعماله، وأذكره أفعاله: وآمره، فإن لم يمتثل قتلته على الفور ليكون عبرة للشياطين.»
أشفق جاك على فهمان فور سماعه تلك الكلمات؛ لأنه يعلم أن أمر طرق بوابة إبليس صعب المنال، وأن محاسبة إبليس من رابع المستحيلات بسبب ضعف أبناء آدم.»







 
رد مع اقتباس
قديم اليوم, 04:25 AM   رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
ابراهيم امين مؤمن
أقلامي
 
إحصائية العضو







ابراهيم امين مؤمن متصل الآن


افتراضي رد: رواية قنابل الثقوب السوداء - أبواق إسرافيل "الرواية المشاركة في كتارا 2019-2020

***
رسالة ماجستير جاك
اسم الطالب: جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة.
تخصص الرسالة: علم الفلك والفضاء.
الرسالة بعنوان: ماذا لو اتجه نجمٌ هِرمٌ إلى مجموعتنا الشمسية وتحوّل إلى ثقبٍ أسود؟
المشرف على الرسالة: أستاذان في علوم الفضاء والفلك.
لجنة المناقشة: لفيف من أساتذة الفضاء والفلك.
القاعة : قاعة كليّة العلوم ببيركلي.
التاريخ : في المستقبل .
ومن أجل المناقشة، زحف الجمهور الأمريكيّ من كاليفورنيا وكذا بقية الولايات إلى بيركلي، وكذلك حضر بعض الأجناس الأخرى ممن يقيمون فيها، والسبب يرجع لعدة عوامل منها: تسابق بروفيسورات الكليّة للإشراف على رسالته، وذكر الدور البطوليّ الذي قام به لإنقاذها من الحريق، واسمه الغريب المسمى نفسه به لأنّه مجهول النسب بالفعل، وإتقانه المنقطع النظير في معرفة دروب ومسالك المجرّات، وكان العامل الرئيس لكثرة الحاضرين هي حملة إعلامية قامت بتدشينها إسرائيل.
ولقد صرّح بعضٌ من العلماء أنّ هذا الفتى سوف يتجاوز علمه علم الكثير من بروفيسورات العالم، بل قال قولا عظيما فيه: «يبدو أن آينشتاين قد بُعث من جديد!»
ومما حفز الشعب الأمريكيّ على الحضور بهذه الأعداد الكثيفة هو ظن الكثير منهم ولاسيما رجال الدين منهم أنّ هذا الفتى هو المسيح المنتظر، فهم لم ينسوا مطلقا قول القساوسة في خضم حريق الجامعة: «إنّ الله حمى تلك الجامعة من أجل رجل سينزل بها سوف يخلّص العالم من كارثة سوف تلم به.»
وما زالت الدوائر العلميّة وبعض الدوائر السياسيّة في شتى بِقاع الأرض تنتظر الحدث المثير والذي سوف يشاهدوه عبر الشاشات .
كذلك الدوائر العلميّة والسياسيّة في أمريكا من رؤساء الجامعات، وأعضاء الكونجرس، ومجلس الشيوخ، ورجال البيت الأبيض.
كلّ إمّا على أرض بيركلي أو أمام الشاشات.
وفهمان ينتظر الآن مشاهدة المناقشة أمام شاشة التلفاز، عيناه مليئتان بدموع الفرح وهو يشاهد الجمع الغفير الذي أتى من أجل صديقه من كافة الولايات.
أمّا العالم الفذُّ ميتشو كاجيتا فيشاهدها عبر التلفاز وعيناه تقدح شررًا من جمرات جهنم.

العرض التقديمي
جلس على كرسيّه وأمامه طاولة وعلى يمينه شاشة عملاقة، أمسك بعصا وأشار إلى حركة النجوم وتجمعاتها في بعض المجرّات، وأخذ يشرح قائلا: «حركة النجوم، السماء ملآنة بمليارات النّجوم، يصل بعدها عنّا من أربعة إلى الملايين من السنوات الضوئية، وهي تتجمع على هيئة عائلات تسكن في ناطحات سحاب المجرّات، وستجدون في.. إلخ.»
ظلّ يتكلّم عن النجوم حتى بلغت براعته أن أحد الفلكيين الجالسين قال: «الفتى رسم خريطة جغرافية للمجرات وهو قائم بيننا، رباه ما هذا الذي أراه، ما أسعد بلدك بك أيّها الفتى الفذّ، بل ما أسعد هذا الجيل وأنت فيه يا فتى، فقد شرفتهم.»
....وما زال جاك يتكلم عن النجوم؛ حيث استأنف بقوله: «وقد يشردُ نجمٌ بعد أن عقّ عائلته ثمّ يأتي ليستعمر مجموعتنا الشمسية، لكن كيف يستعمرها؟ هذا ما سوف تعرفونه لاحقًا في السطور اللاحقة.» استراح قليلا ليمسح عرقا قد قذفه الهم والخوف الساريان بأوصاله حزنًا على أحوال البشرية، ثم انتفض واقفًا وأشار بالعصا إلى صورة للمجموعة الشمسيّة وما حولها من كواكب سيّارة تدور في فلك الشمس وهو يقول: «وما خارج عائلة المجموعة الشمسيّة؟ هذه هي المجموعة الشمسيّة كما تروْن، إنّها تتحزّم بحزام عبارة عن سحابة اسمها سحابة أورط، هذه السحابة وما خلفها عبارة عن مجرات ونجوم وكواكب وكويكبات ومذنبات تبتعد عن بعضها من عشرات إلى ملايين السنوات الضوئيّة.» صمت هنيهة ثم أشار مجددًا على موضع فيها وهو يقول: «هنا، هنا بالتحديد سكن نجمنا المارق، انفلت بسبب سرعته الرهيبة وظل سائرًا قاصدًا أرضنا ليستعمرنا، يستعمرنا من هنا، فيحرقنا هنا، يحرق أولادنا هنا، سوف ينادينا بجاذبيته ليحرقنا من هنا، سوف ..»
لجلج، ثم انهار بجبال خوفه المتطفلة في فضاء قلبه، وكعادته، تحامل وتماسك وقال: «ولن يستطيع إلّا بعد أن يموت، ثمّ يُعاد إلى الحياة، وسيعود وحشًا، أتعلمون كيف؟ سأقول لكم، يتقيأ أولاً وقوده النوويّ، ويظلّ يصغر حتى يصبح بحجم هذه القاعة (يتكلم وهو يشير بيده اليمنى) مع أنّه كان بحجم الشمس، ويموت مودعًا حياة النجوم لينضم إلى زمرة وحوش الثقوب السوداء، عندئذٍ يخبّر عن نفسه، فيطهو الأرض داخل أمعائه..و ..»
ظلّ يغمغم بكلام غير مفهوم حتى ثقل لسانه تمامًا صاحب ذلك رجف بالجسد، وسرعان ما انهدّ وانهار كالجبل على كرسيّه.
حينئذٍ، عمّ الصمتَ كل أرجاء القاعة، وليس ذلك فحسب؛ بل عبر الشاشات من كلّ أنحاء أمريكا والعالم، إنه صمت الفاجعة، فتساقط العشرات من الحاضرين مغشيًا عليهم، وكذلك بضعة آلاف من أنحاء العالم، بينما بعض الفئات القليلة شرعوا في تلاوة الصلاة داعين الله -الرب- باللطف والنجاة من تلك الكارثة الكونية.
وعليه، فقد أطلقت الحكومات من كافة أرجاء العالم ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية سيارات إسعافها لتطلق سراينها المتواصلة في الطرقات لإسعاف المصابين من الناس.
قال فهمان عندما شاهد صديقه وقد تضعضع: «ربنا يلطف بك صديقي الرحيم، فأنت تعلم ما لا يعلمون.»
تمالك جاك نفسه واستجمع قواه وعاود الكلام: «إنْ كنّا نخشى مَن يهاجمنا مِن هذه السحابة أو من خلفها فعليكم أن تخشوا ما هو أكثر من مهاجمة هذا الجرم، أتعلمون ما هو؟ إنّها ثقوبكم أنتم! ثقوب الحرب التي أشعلتموها بأيديكم، ثقوب الحقد والكراهية.» وفور أن قال كلمته تلك إلا وقد أخذ ينظر بعضهم إلى بعض ويفكرون بما كسبت أيديهم من آثام ضد الإنسانية.
استأنف: «دعونا نفترض فرْضًا، نفترض أنه تحوّل إلى ثقب أسود، وعلى بعد سنة ضوئيّة واحدة من الأرض، ثمّ ثبت مكانه وظلَّ يدور حول نفسه ليتهيأ لإفنائنا؛ فما الحل إذن؟ ما الحلّ؟»
والحقيقة أن جاك يرى تلك الفرضيات حقيقة لديه، ولذلك استطرد: «أنتركه يمزّق بلوتو، أم يمزّق نبتون؟ أنتركه يعبث بالشمس، أنتركه يعبث بنا؟ لا والربّ، لن يمسّ هذا المارق أمريكا ولا غيرها، فنفسي فداء لكم جميعًا أيّها الناس. أيّها الناس جميعًا، أيتها اللجنة المبجلة، علينا أن نحتاط للمستقبل، فإذا تحوّل النجم إلى ثقب أسود سنكون نحن أهل الأرض بين المطرقة والسندان، بين جاذبيتين، جاذبية الشمس وجاذبيته، عندئذ، ستحدث زلزلة، زلزال يهزّ الأرض؛ فيهلك مَن عليها، علينا أن نحتاط إذن ونهجر الأرض. وقد يحدث ما هو أشدّ تنكيلا بنا، وهو التهامنا، انظروا..»
وأشار بالعصا على الشاشة ليظهر صورة صورتها ناسا تبيّن كيف التهم ثقب أسود نجمًا كاملاً.
لم يتمالك العالم الثبات من كلام جاك الذي وثّقه بصورة ناسا، فتساقط الآلاف من الضحايا خشية أن يتحول النجم إلى ثقب أسود.
أكمل: «لكن كيف يلتهمنا؟ يلتهمنا إذا كبُر، ولن يكبر إلّا إذا التهم بعض الفرائس التي وقعت بين أنيابه النووية.»
ومنذ هذه اللحظة بدأت بعض الرسائل ترِدُ على الحكومة الفيدرالية بوقف بثّ الرسالة عبر التلفاز، أرسلها بعض الساسة على أثر البلاغات التي وردتهم من بعض الناس من مختلف بقاع الأرض، فأرسل وزير الداخليّة الأمريكيّ إلى لجنة المناقشة رسولا خاصًا معه بعض القوات الأمنية لفض المناقشة معللًا ذلك بأنها لدواعٍ أمنيّة.
استأنف: «هل ممكن القضاء على الثقب الأسود قبل أن يقضي علينا؟»
تنفس الناس الصعداء فور كلمته ورددوا خلفه قائلين نفس عبارته.
أجاب: «من الممكن أن يخلّق مصادم fcc-2 الذي سيبنيه الفتى المصريّ – المعجزة- في مصر المادة المضادة، نرسلها إليه بعد حجزها في مصائد مغناطيسيّة بوساطة محرك سريع فيفنيا بعضهما بعضًا كما حدث في الانفجار الكبير.»
سمعها فهمان فانفجر باكيًا وهو يقول: «واعلم أنّني لن أتاخّر مطلقًا في إنقاذ الناس ولو كان طفلا واحدًا حتى لو كانت حياتي ثمنًا لذلك.»
استأنف: «ومن المعلوم أن هذا المحرك لم يتم اكتشافه بعد، ولم تسعفنا تكنولوجياتنا من تصميم محرك كهذا.»
رفع جاك أوراقاً بيده اليمنى وقال: «تصميم هذا المحرك في هذه الأوراق وسوف أوافيكم به عند رسالة الدكتوراه حالما انتهي مِن وضع اللمسات النهائيّة له.»
زمجر رئيس لجنة المناقشة قائلا: «جاك، لا تخاطب الجمهور، ولا تخرج عن موضوع الرسالة ..لو سمحت.»
تبرّم الجمهور من زمجرة رئيس لجنة المناقشة التي لا داعي لها وأخذوا يلمزونه حانقين عليه.
يكمل: «الذهاب إليه لدحره سيستغرق قرابة عشر سنوات، وإذا نجحتُ في تصميم هذا المحرك؛ فليس من السهل توفير سُبل دعم الحياة من شراب وطعام وأكسجين على مركبة فضائيّة خلال كلّ هذه المدة، والحلّ لديّ.» وهنا رفع جاك يده مرّة أخرى، في هذه اللحظة بالضبط دلف رسولُ وزير الداخليّة باب القاعة ورفع الكارنيه، وأقدم على رئيس لجنة المناقشة ليخبره بوقف المناقشة، ثم ما لبث أن نظر في وجوه الحاضرين المكفهرة، ثم نظر إلى جاك وتأمل ملامحه جيدًا، فوجد رجلا يحمل هم العالم على كتفيه، وشدته تلك الملامح؛ فآثر أن يتمهل قليلا في فض المناقشة، هنيهة واحدة ورفع جاك دوسيه جديد وهو يقول: «في هذه الأوراق تصاميم لجهاز شامل يدعم الحياة في الفضاء لفترة لا تنتهي، وأسأل الربّ أن يوفقني لإتمام إنجازه، واعلموا أنه من أحد التحديّات التي سوف اجتازها من أجلكم، من أجل اللقطاء الذين لم يعرفوا لهم أبًا ولا أمًا مثلي.» وفور أن قالها أجهش بالبكاء.
وبكى كلّ لقيط سمع كلمته حتى إنّ كلّ أبّ وأمّ مِن كلّ جنبات الأرض يمسحون دموعهما الحارة قائلين: «أنا أمّك يا ولدي، وأنا أبوك يا ولدي.»
عندئذ جلس رسول الوزير بين الجالسين بعد أن تأثر بشدة.
تماسك مجددًا وهو يقول بعزة وإباء: «أنا ابن الولايات المتحدة الأمريكيّة، واعتزّ بأنّ كلّ أبّ وأمّ يحملون الجنسيّة الأمريكيّة هم آبائي وأمهاتي، وإن كانوا لا يحملونها فلنا نحن الأمريكيون الشرف بأن يمتزج الدم الأمريكيّ بدماء كلّ الأجناس في صلة مودة واتحاد.»
صمت هنيهات ليهيّئ نفسه للخروج من هذا الحمل النفسي الرهيب ليستقبل حملا أثقل منه بمراحل، ثم بدأ كلامه بتؤدة تحمل آهات الحزن: «كذلك من سبل نجاتنا من وحش كهذا هو الوصول إلى الأكوان المتوازية لمقابلة حضارة أرقى منا، إذا قُدر لنا بطريقة ما الوصول إلى كونٍ متوازٍ لنا فلعلّ حضارة هذا الكون تكون أرقى منّا بملايين السنين، عندئذ يدمرونه بما أوتوا من علم من أجلنا. ولا أجد وسيلة للوصول إلى تلك الأكوان إلّا عبور الثقب الدوديّ المتمركز في الثقب الأسود.»
تنهّد بعض أفاضل الناس وقالوا: «الفتى يريد أن يرمي بنفسه في النار من أجلنا؛ ونحن نلقي بأهلينا وجيراننا فيها من أجل المال، ألا لعنة الله على هذه الدنيا!»
أمّا ميتشو كاجيتا ففور سماعه عبور الثقب إلى كونٍ موازٍ سرح بخياله بعيدًا بعيدًا حتى جاءته الغفوة فتكلم فيها قائلاً: «سوف تأتيكم إيريكا300(روبوت متطور) من سحابة أورط، فحوّلوا النجم لثقب أسود حتى تعبره وتعود بكم إلى الأرض (يخاطب هنا كون آخر من خلال اللاوعي كما ستبين الأحداث اللاحقة).»
تابع جاك: «وإذا اجتزنا كلّ هذه التحديّات سنعبر ونحطمه، سندكّ عنقه. والحظ سيكون حليفي، وسوف أؤمّن لكم حياتكم أيها الناس، فلا تتقاتلوا ولا تتباغضوا ولا تتحاسدوا واعتصموا بحبل السلام جميعًا، مسلم ومسيحي يهودي وبوذيّ ..إلخ.»
وبدأتْ مناقشة ما جاء في الرسالة، واستغرقتْ المناقشة أكثر من ساعتين، وفي النهاية تمّ منحه رسالة الماجستير بتقدير امتياز، وفيما بعد حصل على وسام شرف من البيت الأبيض، ووسام آخر من مقرّ رئاسة الوزراء الإسرائيليّ بأورشليم.

***
احتفالات أكتوبر

أرسل مهديّ إلى فهمان ليحضر في ميدان التحرير -مسقط رأس الثورات الشعبيّة على مرِّ العصور- ليشارك في احتفالات نصر الجيش المصري على نظيره الإسرائيلي في السادس من أكتوبر.
استهلّ مهديّ افتتاح الحفل ببضع كلمات، وظلّ يتكلم عن شجاعة الرئيس الراحل أنور السادات، وشجاعة الجيش المصري في حسم الحرب، وتكلم عن تحطيم خط بارليف وعبور قناة السويس، وأسهب كثيرا في شأن الضربة الجوية ودور الرئيس الراحل محمد حسني مبارك في إدارة المعارك الجوية.
وظل يتكلم بعدها عن دور التكنولوجيا في حسم الحرب، وخص بالذكر دور التعليم بصفة عامة في ازدهار حضارة الأمم.
وقال فيما قال بأن أي دولة لن تنهض بدون العدالة حتى لو بلغت قمة الهرم في الازدهار الحضاري.
ثمّ تطرق أخيرًا إلى رجال أنجبتهم مصر وكانوا مخلصين من خلال دورهم البارز في الحفاظ على أمن مصر ووحدتها وحضارتها. بعدها صمت طويلاً حتى ظنَّ الجالسون ومَن يتابع خطابه المتلّفز على الهواء مباشرة أنّه أنهى خطابه. لكنه فاجأ الجميع وتلفظ بالبسملة وكأنه ما تكلم سابقًا.
قال: «بسم الله الرحمن الرحيم.»
صمت وهو يزفر زفرة طويلة تخرج من بين ثناياها نسيج متشعب من الحزن المشوب بالحسرة، ثم عاود واستأنف كلامه: «ونحن اليوم مع رجل، رجل من طراز خاص، لكن للأسف، للأسف لم يكن بيننا بروحه؛ بل بذكراه التي سوف تُخلّد عبر التاريخ. رجل من أغلى الرجال، من أقوى الرجال، من أصدق الرجال.»
ونظر نظرة المستعبر إلى جانب من الميدان مغطىً بعلم مصر، وأومأ بيده إليه فأُزيح العلم -طوله نحو عشرين مترًا وعرضه متر ونصف مترًا- فانكشف عن تمثال كبير ذو جناحين؛ ولكن رأسه مغطى بوشاح يحمل علم مصر أيضًا. تسمر نظر مهدي إليه، وظل صامتًا، وفجأة ألقى إلى التمثال التحية العسكرية وعيناه تغرورقان بالدموع.
فتعجّب الجميع، وتساءلوا فيما بينهم عن شأن هذا التمثال الذي بلغ من عظمة صاحبه أن الرئيس مهدي ألقى إليه التحية العسكرية؛ حتى ظن البعض بأنه تمثال للرئيس الراحل محمد أنور السادات. والبعض الآخر ظن بأنه تمثالا لسعد زغلول. ودارت الظنون في أدمغتهم، وحاروا حانقين على هذا الوشاح الذي يغطي رأسه. بينما فهمان يحوك في صدره شيء ينشرح له ولكن لا يدري ما هو.
وأخيراً، أزيح ستار الرأس، فصُدم الحاضرون لأن التمثال المبجل لم يكن لأي أحد ممن يعرفونه، فهو نكرة في تاريخ مصر بالنسبة لهم.
لكن في المقابل، نجد بعض رجال أمن الدولة يظهرون استياء شديدًا نحو ذاك التمثال، بينما نجد أهل القرية التي كان يسكنها فهمان تهلل وتكبر مشيرة إلى ذاك التمثال فرحين بفعل رئيسهم مهدي وفخورين بصاحب التمثال. بينما نجد فهمان ينفجر في البكاء يتبعه في ذلك بكاء جاك -المتواجد في أمريكا- على بكاء صديقه.
هب فهمان من مكانه، ثم ركض إلى التمثال ودموعه تزداد انهمارًا، وفور وصوله انكبَّ على قدمي التمثال يلثّمُهما بطريقة خاطفة ومتسارعة.
وباقي الحاضرين ما زالوا فاغرين أفواههم ومحدّقين إلى التمثال الأسطوريّ، ولكن من خلال فعل فهمان أيقنوا بأن هذا التمثال يخص أحد يعرفه وتساءلوا: «مَن هذا الرجل الذي أقام له الرئيس هذا التمثال الفاخر ذو الحلة الرائعة والجناحين الأشبه بأجنحة الملائكة؟ وما شأن فهمان به؟»
ولا يزال فهمان يقبّل قدمي التمثال، ثمّ رفع بصره لأعلى وحاول أن يتسلقه ليدرك رأسه فاستعصى عليه الأمر، وحاول مرارًا بيد أنه في كل مرة يقع يائسًا متحسرًا بينما عيناه تحدق في ملامح وجه التمثال وتبكيان بشدة.
أشار مهديّ إلى أحد الحرّاس بأن يحضر له درجًا كهربائياً متحرّكًا، فركبه فهمان على الفور وارتفع به حتى أصبح تلقاء وجهه، وعندها، أطلق قبلاته بحرارة على رأس أبيه الحقيقي الذي لطالما تمنى رؤيته منذ زمن طويل. واحتضن ذاك الرأس -الذي بحجم نصف جسده تقريبًا- حبًا واشتياقا بعد أن كان محروما من رؤيته بعد عملية الزرع مباشرة.
لم يكن بمقدور التمثال الوقوف صامتًا إزاء فعل ابنه نحوه، فضمه بجناحيه -حيث قام مصمم التمثال بالضغط على زر من وحدة تحكم التمثال فحرك جناحيه- ثم قام التمثال بالدوران وهو يحتضن فهمان -قام بها مصمم التمثال لمحاكاة التقاء اثنين أحبة بعد أن تأكدا بأن اللقاء بات مستحيلا- وفجأة، أُلقيَ عليهما من أحد جوانب الميدان ثيابٌ طوقهما وضمهما ضمة الأم الحنون ولا يزالا يدوران لم يتوقفا بعد.
وفور أن تكلم فهمان توقف الدوران، قال: «أبي، أبي، هذا أبي.»
حينئذٍ أميط اللثام عن هوية التمثال وافتخر الحاضرون به (من الجدير بالذكر بأن عامة أهل مصر لا يعلمون من أمر فطين شيء) قال مهديّ بصوتٍ خفيضٍ خاشع: «هذا هو أبوه، فليرِني كلّ منّكم أباه، ألديكم مثل والد هذا الفتى؟» ثم ما لبث أن قص حكايته على الحاضرين مستفتحا بقوله: «هذا هو فطين المصري، وهذا هو (يشير إلى فهمان) طموح أبيه... وقد تحقق له ما أراد، ويحزنني ويحسرني يا فطين (مشيرًا إلى التمثال) أن لا ترى ثمرة غرزك اليوم.»
وبعد الانتهاء من مراسم تبجيل فطين المصريّ قال الرئيس وهو يشير إلى فهمان: «إنّ القوات المسلحة ستبني المصادم الجديد في مصر بيد هذا الفتى.» ثمّ رفع سبابته مشيرًا إلى التمثال واستأنف كلامه: «ابن صاحب هذا التمثال.»
وانفض الاحتفال، وبالنظر إلى فعل مهدي، نجده قد تصرف بحنكة شديدة، وكان بعيد النظر جدا في سلوكه هذا، ويتضح ذلك من خلال العمل على تأهيل فهمان روحيا وذهنيا لبناء المصادم fcc-2، حيث إن نبوغ فهمان كان من أسمى أماني فطين، وقد ضحى بالغالي والنفيس من أجل يوم كهذا، يوم يقف فيه فهمان يساند بلده، ولن يؤهل هكذا ما دام أبوه -رحمه الله- مصنفًا إرهابيا ومشعوذا في نظر بعض الناس الذين يعرفونه.

وشرع مهديّ في أخْذ التدابير وتمهيد الأسباب لبناء fcc-2 ، فأرسل إلى صندوق النقد الدوليّ بصرْف قرض قيمته عشرون مليار دولارًا كدفعة أولى لبناء المصادم.
كما أرسل إلى الروس يطلب الدعم، فلمّا علمتْ أمريكا بهذا الشأن سارعت هي الأخرى لتقديم المعونة، فرحّب مهديّ بذلك أيّما ترحيب مستغلا تلك الحرب الباردة المصغرة لمصلحة مصر.
وتداول خبر إنشاء مصادم الهادرونات الكبير عبر كلِّ وكالات الأنباء المحلية والعالمية، وكان رد الفعل متشابها إلى حد كبير (كما ستبين الأحداث اللاحقة).


***
الماضي مرآة المستقبل
تداول خبر بناء مصادم ابن فطين المصري لدى كلّ قطاعات الشعب المصريّ بجميع فئاته، ولولا نصْرة مهديّ لهم مِن قبل إبان ثورتهم المجيدة ضد الرئيس المعزول، وكذلك نصرته لاتحاد المقاومة الفلسطينية، ونجاحه المتفرد في التوافق بين كآفّة أطياف الشعب على اختلاف مِللهم ونِحلهم ومذاهبهم تحت مظلة المواطنة لارتابوا في أمر بناء المصادم، واعتبروه أمرًا سيفاقم من فقرهم أكثر وأكثر؛ بل قد تتطرف ظنونهم لأكثر من ذلك بأن يعتبروه حجة يتعلل بها مهدي من أجل فرض ضرائب عليهم.
ومما حفزهم على الثقة في مهدي أكثر وأكثر هو الدور الذي قدمه الساسة المصريون وأئمة المساجد وقساوسة الكنائس وخبراء الاقتصاد من أجل إقناعهم بجدوى بناء المصادم بمصر، كل منهم يتكلم من خلال إيمانهم بالرئيس مهدي وقناعتهم الشخصية بجدوى بناء هذا المصادم.
ومما قاله خبراء الساسة والاقتصاد لهم بأن العالم على مشارف حرب نوويّة، وعلى ذلك سيكون محل نظر أصحاب القرار من الدول المتحاربة، وكذلك باحثوهم وخبراؤهم بسبب الطاقة الجديدة التي سيعمل بها -ألَا وهي 400-500 تيرا إلكترون فولت- هذه الطاقة قد تُسخر لصنْع سلاح قد يكون له كلمة الفصل في ترجيح إحدى الكتلتين على الأخرى في الحرب النوويّة المحتملة بينهما.
وبذلك قد بوءوا لمهدي قاعدة عريضة يتكئ عليها ينطلق من خلالها لضم ما تبقى من أموال الشعب المصري إليه ليبني به المصادم.
فضلاً عن هذا التدشين؛ فهناك عوامل أخرى يتكئ عليها مهديّ، وهي أنّ صاحب الابتكار ابن الوطنيّ الشهيد -فطين المصريّ- والذي كُرم في قلب ميدان التحرير.
أما محاولة اغتياله في جنيف كانت بمنزلة كلمة السرِّ أو المفتاح الذي فتح قلوب هذا الشعب الفقير العريان له آنذاك فأحبوه وقلدوه الثقة.
أمّا أصحاب القلوب المريضة فتواروا خلف ألسنتهم المعسولة، وبسماتهم الزائفة، وظلوا يتشدقون عبر وسائل الإعلام بجدوى بناء المصادم في حين إن قلوبهم تمتلئ غيظا من ثبات الرئيس مهدي، وثقته في نفسه، وقوته التي ما بلغها رئيس مصري من قبله.
وبعد تأهيل نفوس للشعب إزاء بناء المصادم شرع مهديّ للقيام بأول خطوة لدعم المصادم، فأرسل يتعجّل البنك الدوليّ بشأن قرض العشرين مليار دولارًا، وأرسل كذلك إلى الروس والاتحاد الأوربي.
وبدأت المفاوضات، وقد استمرت بضعة أشهر، تأكد مهدي خلالها أن كل هؤلاء متشدقون، فأخذ قرارًا أضمره في نفسه ولم يبح به حتى تأتي اللحظة المناسبة، ولما جاءت تلك اللحظة أعلن عنه -وهو الخطاب الآتي- وبإعلانه عن الخطاب تحفزت بعض الدول لسماعه بسبب دورهم المخزي تجاه الدعم الخاص ببناء المصادم، ومن بين هؤلاء دولة إسرائيل، وقادة اتحاد المقاومة الفلسطينية، والولايات المتحدة الأمريكية، والروس، واليابان، كما تحفز أيضًا بعضُ فيزيائيي العالم -كعالم الفيزياء الياباني ميتشو كاجيتا- ورئيس جامعة بيركلي. وكذلك مدير صندوق النقد الدولي، هذا بالإضافة إلى فهمان -صاحب المشروع الأصلي- وجاك صديقه، والشعب المصري.
والآن الخطاب المنتظر..
«أيّها الشعب الكريم سلام عليكم، أنا ألوذ بكم، فهل تغيثوني؟......
امتد يد الشعب قاطبة نحو التلفاز وكأنهم يلبون نداءه بالفعل.
.....أنا واثق أنّكم أهل نخوة ونبل وشجاعة، وسوف تمدّون أيديكم لتضعوها في يدي لنسير معًا نحو حركة إصلاح اقتصادي مستنير. قبل أن أخبركم ما أريده منكم أريد أن أعلمكم بالتفصيل مماطلة البنك الدوليّ، وكذا كلّ الجهات التي أبدتْ رغبتها في دعم بناء مصادم fcc-2، تعرفونه طبعًا، كما تعرفون كيف كانت أمريكا حريصة على بنائه في أنفاق أراضيهم، وهذا لا يمنع بأن كثيرًا من الدول الغربية تود تحقيق هذا الأمر على أراضيها أيضًا، كسويسرا....
لمّا سمعها رئيس جامعة بيركلي تحسّر توجعًا، فكم كان يرجو أن يُبنى على الأراضي الأمريكية.
....أقول لكم الحكاية من البداية أم النهاية؟ أقولها من البداية أفضل. بداية، طلبنا من المصرف الدوليّ قرْضًا بقيمة عشرين مليار دولارًا كدفعة أولى للإنفاق على المصادم، وردّ المصرف بأنّه سيبحث الطلب، وانتظرنا ردهم لكن للأسف لم يردوا. فأرسلنا إليهم؛ فصارحونا بأن هناك بعض العقبات لصرف هذا القرض، قلت لهم كيف ذلك؟ فتمتم لي مندوب البنك الدوليّ ثمّ طلب مهلة أخرى، فأحسستُ أنّه يماطل أملا في نصْب فخٍّ لنا، فلا أجد مبررًا للتأجيل أو المماطلة إلا إنها لا تتصرف باستقلالية....
رئيس صندوق النقد معلقًا وهو يشاهد الخطاب: «نحن لسنا جهة ذات سيادة يا مهديّ، وأنت تعلم ذلك فِلمَ تكابر؟»







 
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 04:58 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط