السلام عليكم
هذا هو مسار اللغة العربية منذ العصر الإسلامي الأول حتى ليلة القضاء على الخلافة,فلم يكن يمضي عقد من الزمن إلا ويولد عالم نابغ يحمل لواء اللغة العربية ,ولم يكن ينطوي عصر إلا و يظهر علم يافع يعيد حيوية اللغة إلى سابق عهدها, ولم يكن ينصرم زمن إلا ويبزغ علامة يجدد مجد هذه اللغة الراقية الرائدة,وظلت اللغة العربية محط أنظار العلماء على اختلاف أعراقهم, ومبلغ أحلامهم ومنبع إلهامهم,فبددوا الأعمار والدينار ,ودرسوا في العشي والأبكار,فجاءوا بكل طريف ظريف ونكتة ونادرة حتى فاضت المكتبات بمصنفاتهم في اللغة العربية ,وتنوعت المصنفات في علوم اللغة,وتعددت المؤلفات في النحو,وفي الصرف والشعر,وأقسام البلاغة والخطابة والنثر,ولم يقتصر اهتمام المسلمين باللغة العربية على العرب,بل جاد فيها العربي والتركي والفارسي والهندي والإفريقي,ولم يقتصر هذا على عصر من العصور ,بل في كل عصر بزغ من العلماء ما لم يكن في المقدرة عدّهم,ولا في الطاقة من حصرهم,وهذا دليل التواصل الحضاري لأمة الإسلام,فالقرآن جعل من المسلمين جسدًا واحدًا,واللغة هي وسيلة التفاهم بين أفراده الأمة ,ومن طريف اهتمام غير العرب بلغة العرب
أنه في بريطانيا نُظْمَتْ مسابقة شعرية باللغة العربية الفصحى ، واشترك فيها كثير من الشعراء وكان الفائز الأول هو شاعر من سنغاليا بقصيدة له في مدح النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مطلعها :
هجرت بطاح مكة والهـضابا = وودعت المنازل والرحابا
اتخذت من الدجى يا بدر سترا =ومن رهبوت حلكته ثيابا
ومن عجب تسيئ إليك أرض= نشأت وما أسأت بها شبابا
يزلزل بـالدعاء ذرى حراء = فـلولا الله يمسكـه لـذابـا
فسبحان الله الذي ينزل حب هذه اللغة في قلوب الناس,ويجعل لها مكانة في نفوسهم.
اللغة العربية هي ترجمان وحي الله,ولغة كتابه العزيز,ومعجزة رسوله الأمين,ولسان الصحابة وأتباع النبي العربي والدعوة إلى يوم الدين,فهذبها الرسول عليه الصلاة والسلام بحديثه,ونشرها الإسلام بانتشاره,وحفظها القرآن بحفظ الله له,فلا قرآن بغير اللغة العربية,ولا صلاة بغير القرآن,فالإسلام بغير اللغة العربية أعجمي غريب,واللغة العربية بغير الإسلام محصورة حسيرة.
4.تدهور اللسان العربي وظهور الحركات القومية والوطنية:
بقيت اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة الإسلامية على اختلاف عصورها , إلا أن الحقيقة المرة والتي بدأت الأمة الإسلامية في تجرعها في بداية القرن السادس عشر حيث شرعت اللغة العربية في التقهقر وسيطرت لغات آخرى في التخاطب والتفاهم ومرافق الحياة العامة,ويبدو أن عصر العالم العلامة طاش كبرى زاده كان آخر عهد لسيطرة اللغة العربية واتخاذها لغة رسمية, وفسح المجال للغة التركية والفارسية في التعبير والتفاهم,حتى أن كثيرًا من العرب كانوا يتعلمون التركية والفارسية كي يستطيعوا الوصول إلى المناصب ومراكز القيادة,وقد علق السلطان عبد الحميد على هذا الأمر قائلًا:" اللغة العربية لغة جميلة. ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة من قبل. لقد اقترحت على (خير الدين باشا -التونسي- عندما كان صدراً أعظم أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية، لكن سعيد باشا كبير أمناء القصر أعترض على اقتراحي هذا. وقال : "إذا عرّبنا الدولة فلن يبقى -للعنصر التركي- شيء بعد ذلك".اهـ
وهم بهذا فصلوا الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية الأمر الذي أدى إلى سوء فهم الإسلام إلى حد الانحراف حتى أنهم لم يميزوا القضايا المصيرية ففقدت هذه القضايا المصيرية اعتبار أنها مصيرية ولم يتخذ إزائها أجراء الحياة أو الموت.
ويمكن أن تعود أسباب هذا الجفاء إلى الآتي:
1.اهتمام السلاطين العثمانيين بالفتوحات والجهاد
2.انشغال الدولة في التصدي للمؤامرات الدولية التي كانت تديرها الدول الغربية,منها حركات الإستقلال لأقاليم تابعة للسلطنة العثمانية.
3.ضعف بعض السلاطين العثمانيين وانهماكهم في الحياة الدنيا
4.اتساع الهوة بين العرب والترك نتيجة الحركات القومية والوطنية بين أفراد الأمة الإسلامية.
قد يبدو غريبًا لبعض الناس الربط بين تدهور اللسان العربي والحركات القومية والوطنية...هذا ما سوف أبيّنه بعد عرض موجز لظهور هذه الحركات...
ظهرت الحركات القومية سابقة على الحركات الوطنية وذلك لانحطاط الفكر في المجتمع الإسلامي,فبعد أن كان المجتمع في عهد الإسلام ناهضًا بدأت بوادر الانحطاط تظهر عليه ,وعواصف القومية تعصف به عصفًا,وتحولت المجتمعات الإسلامية إلى كيانات على أساس عرقي قومي,وأصبحت الرابطة بين أفراد المجتمع الإسلامي الواحد هي رابط العرق والقوم,وهذا دليل انحطاط الفكر عند البشر,فالإنسان الواعي الناهض يبحث عن رابطة تربطه بغيره من الناس بغض النظر عن جنس أم عرق هؤلاء الناس يقتنع بها عقله ويطمئن لها قلبه...
يعود تاريخ ظهور الحركات القومية إلى بداية القرن السادس عشر حين بدأت الدول الغربية في بثها في البلاد التابعة للدولة العثمانية وخاصة الأقاليم التي أهلها لا يدينون بالإسلام ,وذلك لتقطيع آوصال الدولة العثمانية وإثارة القلاقل وزيادة النزاع بين رعاياها,وكان أول من تنبه إلى أثر القومية في نفوس رعايا الدولة الإسلامية ودعا إلى بثها هو مارتن لوثرفقال:" إن أحببتم القضاء على الإسلام فالطريقة المثالية و الأنجع بما أن المسلمين أمة متكونة من مجموعه أمم مختلفة الأعراق متماسكة بنيانها بالإسلام فالواجب للقضاء عليهم تقسيم وتفكيك الأمة إلى أمم متشرذمة ومن بعدها تقسيم كل أمة إلى دول ومن بعدها تقسيم كل دوله إسلامية أشطارا محركين فيهم ذاك الحس العرقي الذي سيكون محركا أساسيا لجعل الخلاف أعمق".