منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - لوحة وفنان - نبـــذة : لوحة الجيوكندا أو الموناليزا - للفنان ليوناردو دافنشي
عرض مشاركة واحدة
قديم 25-02-2009, 02:59 AM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
وليد محمد الشبيبـي
أقلامي
 
الصورة الرمزية وليد محمد الشبيبـي
 

 

 
إحصائية العضو







وليد محمد الشبيبـي غير متصل


إرسال رسالة عبر MSN إلى وليد محمد الشبيبـي إرسال رسالة عبر Yahoo إلى وليد محمد الشبيبـي

افتراضي رد: لوحة وفنان - نبـــذة : لوحة الجيوكندا أو الموناليزا - للفنان ليوناردو دافنشي

مع بداية القرن الخامس عشر كانت ثمّة محاولات ترمي إلى تجاوز محاكاة الأشخاص في تصوير البورتريهات إلى ما هو أبعد من أن يجتزئ الفنان بتسجيل السمات الشبيهة والرؤوس النمطية الدالة على أشخاصها، إلى إبراز الأمزجة المختلفة التي تفيض بها وجوه أصحابها عند تصويرها، وما يبدو على الوجه من انفعالات عارضة، وابتسامات غير متكلّفة تعكس بحق ما يجيش في النفس لحظتها. فالابتسامة التي تنفرج عنها شفتا الموناليزا (لوحة 247) وإن بدت فاترة أو مرّت خاطفة وميضاً واختلاجاً إلا أن الشدقين يمتلآن بها تكاد تُرعد لها ملامح الوجه وإن لم تدرك بالنظرة العابرة. وإن أكثر ما يدهشنا حين نتأمّل صورة موناليزا هو تخيّلنا وكأنها تنبض بالحياة، فنظراتها إلينا فيها عمق المفكّر الذي يطوي مكنون سرّه في صدره، ثم إذا هي تختلف باختلاف نظراتنا إليها، فنرى نظرتها إلينا مرة نظرة ساخرة، ومرة أخرى نظرة باسمة تشوبها مسحة من حزن، وفي هذا وذاك ما يضفي على صورتها هذا الغموض الرائع الموحي. وما من شك في أن ليوناردو كان يفطن إلى هذا الأثر ويعرف كيف يعبّر عنه بمثل هذه اللمسات، كما كان على دراية تامة بكيفية لفت نظر المشاهد إلى ما يرسم. ونرى بشرة وجهها الملساء تتموّج تموّج سطح الماء مع هبّات النسيم، ويتمازج الضوء والظل عليها في حوار خافت لا يُملّ الإنصات إليه، ونشهد عينيها العسليتين تحدّقان عبر جفنيها الضيّقين، على عكس ما كان يتجلّى في عيون بورتريهات القرن الخامس عشر التي كانت تبدو متألّقة البريق، فهي هنا نظرات ناعسة مندّاة بالدموع، ونرى الجفنين وكأنّهما خطان أفقيان ينم ما تحتهما عن حساسية مرهفة وأعصاب رهيفة تحجبها شفافية البشرة الرقيقة. ومع الحواجب التي تمّت إزالتها يبدو الجبين فسيحاً. وما نشهده في صورة موناليزا ليس أمراً شاذّاً فلقد كانت إزالة الحواجب شائعة بين سيدات ذلك العهد، وكان الجبين الرحب صفة من صفات الجمال، الأمر الذي كان يدفع النساء أيضاً إلى إزالة تلك الشعيرات النابتة أعلى الجبين. وبهذا كانت الموناليزا نموذجاً للذوق الطاغي المتفشّي خلال القرن الخامس عشر، ثم ما لبث الحال أن تبدّل بعد أن عدل القوم عن بدعة رحابة الجبين ورأوا أنه من الأفضل أن تعود الحواجب إلى ما كانت عليه لتحدّد رقعة الجبهة. ولقد دفع هذا المصورين بعد إلى أن يعودوا إلى لوحة الموناليزا المستنسخة المحفوظة بمدريد فيضفون عليها هذا التحوير المثير، أعني إضافة الحواجب.وتجلس موناليزا في رقّة ونعومة على كرسي ذي متكئين، وقد انسدل شعرها البني على وجهها حلقات، كما استرسل وشاح رقيق من الرأس على كتفيها. لعل ما يفاجئ المشاهد رؤيته إياها رافعة رأسها إلى أعلى في اتزان، وهو ما كان شائعاً بين سيّدات ذلك العصر، فلقد كان رفع الرأس شامخاً كالسهم استواء يعني علو المحتد، وهو ما نلحظه أيضاً في نساء لوحة "مولد العذراء" لجيرلاندايو (لوحة 216)، وسرعان ما تغير هذا العرف فإذا الوضعة تتحول هي الأخرى في لوحات البورتريهات.وليس ثمّة غلو فيما ترتديه موناليزا إذ تبدو ثيابها على غاية من البساطة أميل ما تكون إلى التقشّف، وكان مما يمليه فن التصوير خلال القرن السادس عشر أن يكون الخط العلوي للصدرة أفقياً صامتاً لا حركة فيه. وثمّة عباءة خضراء مطوية على كتفها، ويبدو كمّا الثوب بنّيين مشربين صفرة مخالفين لما كانت عليه النماذج السابقة من تصويرهما قصيرين ضيّقين، فهما في هذه الصورة فضفاضان يغطيان الرسغين وقد عمّتهما المكاسر العرضية حتى توائم استدارات الأيدي الناعمة والأنامل الرهيفة غير المثقلة بالخواتم (لوحة 248)، ويبدو عنق موناليزا كذلك عاطلاً لا يحمل حليّاً.وفي خلفية اللوحة يبدو منظر خلوي مفصولٌ بينه وبين موناليزا بشُرفة هابطة، وهو محصور كذلك بين عمودين، غير أنه لا نهاية له يبلغ الطرف مداها. ونشهد في هذا المنظر غير المألوف كثرة من جبال متخيّله ذات قمم مدبّبة تفيض بينها بحيرات وجداول، وما أقرب هذا المشهد الذي ينبئ عنه تصويره غير التام إلى ما يتراءى للنائم في منامه من مشاهد ويختلف هذا المنظر كل الاختلاف عن صورة موناليزا، وليست هذه نزوة من نزوات الفنان، بل هي لا شك جاءت عن قصد منه لإضفاء المزيد من الحيوية على اللوحة، إذ يمثل المشهد في عمومه ما عنّ له عند تمثّله للأشياء البعيدة الذي ذكره في "مقالته عن فن التصوير(88) Trattato della Pittura ". وكان هذا النجاح الذي حققه في تطبيق نظريته تلك ما جعل اللوحات المعلقة بالقاعة المربعة بمتحف اللوفر إلى جانب لوحة موناليزا تبدو كأنها مسطّحة غير مجسّمة. وتشوب المشهد الخلوي ألوان مختلفة بين بني قاتم وأزرق مشرب خضرة وأخضر تشوبه زرقة تبلغ زرقة السماء.كان ليوناردو يعتقد أن "التجسيم" هو بمثابة الروح بالنسبة لفن التصوير، ومن أراد أن يتحقّق من صدق هذا العبارة ما عليه إلا ان يتطلّع إلى صورة موناليزا، فالتموّجات الرقيقة في صفحتها ما هي إلا انعكاسات لتجربة ذاتية حملها الفنان. والصورة وإن بدت للنظرة الأولى بسيطة إلا أن ثمّة كثرة من المعاني تنطوي عليها، إذ كلما أمعن المشاهد النظر فيها تكشفت له عن جديد، ومن أجل هذا كان لا بد للدارس من أن يكون على قرب منها، فنظرته البعيدة إليها لا تكشف له عما تتضمنه (لوحة 249).ولقد اجتمع فنانو القرن الخامس عشر الإيطاليون على تصوير أشكالهم جامدة هامدة، ولم يكن هذا عن نقص فيما أوتوا من موهبة وجلد أو قلّة دراية بأصول التصوير وقواعد المنظور، فقد تركوا لنا صوراً غاية في الإبداع والجلال حاكوا فيها الطبيعة، غير أن أشكالهم جاءت أشبه شيء بالتمثيل في جمودها. ولعل مرد هذا إلى أنهم كانوا أكثر ما يكونوا أمانة في النقل ومحاكاة للشكل، مما جعل المشاهد يخالها جامدة لا حياة فيها وكأنه بين يدي أناسيّ سلبتهم الحياة مسّة سحر ساحر. وقد بذل الفانون جهدهم لينفذوا من هذا المأزق، مثل بوتتشيللي الذي عُني عناية فائقة بترك الشعور مهدّلة والثياب منسابة ليبدو الأشخاص أميل إلى الحركة. ولكن الأمر عند ليوناردو كان على خلاف ذلك فلقد رأى وحده الخلاص من هذا الجمود بأن يفسح المجال لخيال الرائي يرى ما يعنّ له، إذ كان يؤمن بأنه إذا ترك معاني الصورة مبهمة غامضة غير جلية استحالت لمساتها أطيافاً لا يكون معها ذلك الجمود.وإذا ما دقّقنا الطرف في لوحة موناليزا تكشّف لنا ما فيها من غموض، ذلك لأن ليوناردو قد استخدم تقنية "الضبابية" في دقّة وعناية. ومعلوم لدى كل فنان أن تقاسيم الوجه مردّها إلى شيئين هما شدقا الفم وجانبا العينين، وحين ترك ليوناردو هذه الأجزاء عامداً مبهمة غامضة مغشّاة بظلال دقيقة، كان يقصد كما قدّمت إلى تركنا في حيرة من نظرات موناليزا غير الواضحة الدلالة. ولم يكن هذا الغموض الذي قصد إليه ليوناردو هو وحده هذا الأثر، فثمّة أشياء أخرى منها جانبا الصورة اللذان يبدوان غير متماثلين تماماً. وهو ما يبدو واضحاً في المشهد الخلفي الخيالي، فخط الأفق يساراً أدنى انخفاضاً من خط الأفق يميناً. من أجل هذا إذا أمعنّا النظر في الجانب الأيسر من الصورة نرى صورة موناليزا أكثر طولاً منها حين نمعن النظر في الجانب الأيمن، وكذلك تتغير قسمات وجهها مع اختلاف وقفة الناظر إليها. ولقد يبدو عمله هذا معجزة سحرية لولا إيماننا بأنه إبداع فني على يد فنان عرف كيف يبدأ وكيف ينتهي وإلى أي حد يمضي.


(منقول)






 
رد مع اقتباس