تجنب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية
ومما يقرب المسافة بين الداعين إلى الإسلام في الأمور الخلافية: تجنب القطع في المسائل الاجتهادية، التي تحتمل وجهين أو رأيين أو أكثر، وكذلك تجنب الإنكار فيها على الآخرين. ولهذا قرر علماؤنا: أنه لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية، فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك، بله أن ينكر على مجتهد.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟
فأجاب: الحمد لله. مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم.
وسئل في مقام آخر رحمه الله: عمن ولي أمرا من أمور المسلمين، ومذهبه لا يجوز "شركة الأبدان" فهل يجوز له منع الناس من العمل بها؟
فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك. لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار.
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.
ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على "موطئه" في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه (كتاب الاختلاف) ولكن سمه (كتاب السنة).
ولهذا كان بعض العلماء يقول: اجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا أجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا. وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة، مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشريه وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره. والتوضؤ من مس الذكر، والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين، والقهقهة، وترك الوضوء من ذلك والقراءة بالبسملة سرا، أو جهرا، وترك ذلك، وتنجيس بول ما يوكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة، وترك ذلك والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين، أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، أو المنع من قبول شهادتهم.
وهذا هو موقف الصحابة من القضايا الاجتهادية التي تقبل أكثر من فهم، وأكثر من تفسير:
روي أن عمر رضي الله عنه قضى في المسألة المعروفة باسم (المسألة الحجرية) في الميراث بعدم التشريك بين الأخوة الأشقاء والأخوة الأم، ثم رفعت إليه مرة أخرى، فقضى فيها بالتشريك، فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا! فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم.
وبهذا فسر ابن القيم قول عمر في كتابه إلى أبي موسى الأشعري "ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم، فراجعت فيه رأيك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".
وروي أن عمر لقي رجلا فقال: ما صنعت ـ يعني في مسألة كانت معروضة للفصل فيها ـ فقال الرجل: قضى علي وزيد بكذا.. فقال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا.. قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي المشترك.
ضرورة الاطلاع على اختلاف العلماء
ومما يساعد على التسامح وتبادل العذر فيما اختلف فيه: الاطلاع على اختلاف العلماء، ليعرف منه تعدد المذاهب، وتنوع المآخذ والمشارب، وأن لكل منهم وجهته، وأدلته التي يستند إليها، ويعول عليها، وكلهم يغترف من بحر الشريعة، وما أوسعه.
ومن أجل ذلك أكد علماؤنا فيما أكدوه، وجوب العلم باختلاف الفقهاء، كوجوب العلم بما أجمعوا عليه، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة.
وفي هذا قالوا: من لم يعرف اختلاف العلماء، فليس بعالم.
من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم أنفه رائحة الفقه!
وآفة كثير من الدخلاء على العلم أنهم لا يعرفون إلا رأيا واحدا، ووجهة واحدة أخذوا من شيخ واحد، أو انحصروا في مدرسة واحدة، ولم يتيحوا لأنفسهم أن يسمعوا رأيا آخر، أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة، أو يحيلوا أنظارهم في أفكار المدارس الأخرى.
والعجيب في أمر هؤلاء أنهم ينهون عن التقليد، وهم في الواقع مقلدون، رفضوا تقليد الأئمة القدامى، وقلدوا بعض المعاصرين.
وأنهم ينكرون المذاهب وقد جعلوا من آرائهم مذهبا خامسا، يقاتلون دونه وينكرون على من خالفه!
وأنهم ينكرون علم الكلام القديم وما فيه من جدليات وتزيدات، وقد أنشئوا بأقاويلهم علم كلام جديد، لا يهتم بغرس اليقين في القلوب، بقدر ما يغرس في العقول حب الجدل في أمور العقيدة.
إن موقف هؤلاء من الحقيقة موقف العميان من الفيل، في القصة الهندية المشهورة فهم لا يعرفون إلا ما وقعت عليه أيديهم.
ولو وسعوا آفاقهم لعرفوا أن الأمر يتسع لأكثر من رأي، وأن الآراء المتعددة يمكن أن تتعايش، وإن اختلفت وتعارضت. المهم هو الإنصاف وترك التعصب، والاستماع إلى الآخرين، فقد يكونون أصوب قولا، وأصح فهما.
وكم من دارس منصف رجع عن تعصبه وغلوائه، حين عرف أن في المسائل أقوالا عدة لعلماء معتبرين.
خذ مثلا قضية رمي الجمار في الحج، وما قاله بعضهم من أن من رمى قبل الزوال فحجة باطل! لأنه خالف السنة.
قال جابر: رمى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال.
وعن وبرة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى أمامك فارمه.. فأعدت عليه المسألة، قال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا.
قال في (الفتح): وفيه دليل على أن السنة يرمي الجمار ـ في غير يوم الأضحى ـ بعد الزوال. وبه قال الجمهور.
وخالف فيه عطاء وطاووس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقا. ورخص الحنفية في الرمي قبل الزوال في يوم النفر، أي يوم النزول من منى، وكذلك روي عن إسحاق.
وهذه هي المسألة التي اختلف فيها الشيخ عبد الله بن زيد المحمود مع علماء الرياض منذ أكثر من ثلاثين عاما. وكتب فيها رسالة (يسر الإسلام)، واشتد المشايخ هناك في الرد عليه، مع أن جواب ابن عمر لمن سأله ـ رغم تشدده في الاتباع ـ يدل على سهولة الأمر عنده، وحسب المسلم في ذلك أن يتبع أمير الحجيج، قدم أو أخر.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الرمي نفسه، كما في (الفتح).
فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم.
وعند المالكية: أنه سنة مؤكدة.
وعندهم رواية: أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه.
ومقابله: قول بعضهم: إنما شرع الرمي حفظا للتكبير، فإن تركه وكبر أجزأه، حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها.
ويقول بعض الأخوة: إن الرأي الذي ينفرد به فقيه أو اثنان خلافا لجمهور الأمة، يجب أن لا يعتد به ولا يعول عليه.
وقال غيرهم: إن ما خالف المذاهب الأربعة التي تلقتها الأمة، بالقبول، يجب أن يرفض ولا يقام له اعتبار.
والحق أن هذا كله لا يقو عليه دليل من كتاب أو سنة.
فالإجماع الذي هو حجة ـ على ما قيل فيه ـ هو اتفاق جميع المجتهدين على حكم شرعي، ولم يقل أحد: إنه اتفاق الأكثرية، أو الجمهور فالأمر ليس أمر تصويت بالعدد.
صحيح أن لرأي الجمهور وزنا يجعلنا نمعن النظر فيما خالفه، ولا نخرج عنه إلا لاعتبارات أقوى منه، ولكنه ليس معصوما على كل حال.
وكم من صحابي انفرد عن سائر الصحابة برأي لم يوافق عليه سائرهم، ولا يضره ذلك.
وكم من فقهاء التابعين من كان له رأي خالفه آراء الآخرين. ولم يسقط ذلك قوله. فالمدار على الحجة لا على الكثرة.
وكم من الأئمة الأربعة من انفرد عن الثلاثة بآراء وأقوال، مضى عليها اتباع مذهبه، مؤيدين ومصححين.
ومذهب أحمد بن حنبل ـ وهو مذهب المشهور باتباع الأثر ـ قد عرف بـ (مفرداته) التي نظمها من نظم، وألف فيها من ألف، وغدا من المألوف أن يقرأ الباحث فيه هذه العبارة: وهذا من مفردات المذهب.
والمذاهب الأربعة ـ على مالها من اعتبار وتقدير لدى جمهور الأمة ـ ليست حجة في دين الله، إنما الحجة ما تستند إليه من أدلة شرعية، منقولة أو معقولة.
وما يقال عن بعض الآراء: إنها شاذة أو مهجورة أو ضعيفة، فهذا لا يؤخذ على إطلاقه وعمومه، فكم من رأي مهجور أصبح مشهورا، وكم من قول ضعيف في عصر جاء من قواه ونصره، وكم من قول شاذ في وقت هيأ الله له من عرف به وصححه وأقام عليه الأدلة، حتى غدا هو عمدة الفتوى.
وحسبنا هنا آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، التي لقي من أجلها ما لقي في حياته، وظلت بعد وفاته قرونا، وظل من العلماء من يعتبرها خرقا للإجماع، حتى جاء عصرنا التي وجد فيها سفينة الإنقاذ للأسرة المسلمة من الدمار والانهيار.
وآفة بعض (الحرفيين) ـ ممن أسميهم (الظاهرية الجدد) ـ أنهم يحسبون أن باستطاعتهم حذف الخلاف في المسائل الشرعية الاجتهادية فرعية أو أصلية، يجمع الناس على ما يرونه حقا وصوابا، ورفض ما عداه مما يعتبرونه باطلا وخطأ.
ونسي هؤلاء أن الإعجاب بالرأي أحد (المهلكات) وأن بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، ومن ذلك أن يحقر رأيه.
إن عيب (الظاهرية الجدد) أنهم يعتبرون وجود حديث نبوي، في موضوع الخلاف قد حسم النزاع، والمخالف لهم، حينئذ مخالف للحديث، ومعارض السنة.
وهم في هذا جد مخطئين، لجملة أسباب:
فقد يعتمدون هم تصحيح الحديث تقليدا لبعض العلماء السابقين، أو المعاصرين من المشتغلين بالحديث، ولكن غيرهم لا يسلم لهم بذلك. وهذا أمر معروف من قديم بين كبار علماء الأمة، وفقهاء السلف، يصحح هذا حديثا،، وغيره يضعفه، لأنه يشترط في ثبوت الحديث عنده ما لا يشترط الآخر، إما بصفة عامة، أو فيما تعم به البلوى، وينتشر بين الناس، وإما لاختلافهم في توثيق الرواة، وتجريحهم. فهذا يعدل روايا، وآخر يعتبره مجروحا.
وقد يقوي أحدهم الحديث بتعدد الطرق الضعيفة التي يروى بها، ولا يسلم غيره له بذلك.
وقد يرى أحدهم الاحتجاج بالمرسل، ولا يرى آخرون ما يراه، وهكذا.. انظر إلى أحاديث مثل الأحاديث التي وردت في تحريم الذهب على النساء، فقد صححها بعض العلماء وضعفها آخرون، والذين صححوها ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة، وبعضهم إلى أنها متأولة، وذلك لإجماع الأمة بجميع مذاهبها على إباحة التحلي بالذهب للنساء، وهو ما استقر عليه عمل الأمة بالفعل طوال أربعة عشر قرنا من الزمان.
وقد ينازعهم المخالفون على افتراض صحة الحديث الذي يعتمدون عليه، بأن الحديث ليس في أمر تشريعي، بل في أمر عادي من أمور الدنيا، مثل حمل العصا في الخطبة أو الأكل باليد، أو على الأرض، ومثل قوله عليه السلام: "عليكم بالإثمد (نوع من الكحل)، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر"، فالمسلم إذا لم يعارض بهذا، وعمل بتوصية طبيب العيون المختص، لم يكن مخالفا لنص، ولا معارضا لسنة.
وقد يكون الحديث في أمر تشريعي، ولكنه تشريع مما ثبت للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصفة الإمامة والرئاسة، لا بصفة التبليغ والفتوى عن الله عز وجل كما قال ابن القيم في حديث "من قتل قتيلا فله صلبه".
وقد يكون الحديث في أمر تشريعي عام دائم، ولكن الخلاف واقع، في دلالته على الحكم، كما إذا اشتمل على أمر أو نهي، فهل الأمر للوجوب، أم للاستحباب أم للإرشاد؟ وهل النهي للتحريم أم للكراهة، وهل الكراهة تحريمية أم تنزيهية؟
هذه الاحتمالات كلها قائمة، وهي أقوال وآراء لعلماء الأصول في دلالة الأمر والنهي، ولكل قول منها دليله ووجهته.
وفي كل من دلالة الأمر والنهي سبعة أقوال على ما ذكر الأصوليون في مبحثي الأمر والنهي.
وقد رأينا الصحابة يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم، أوامر، ومع هذا يترخصون في تركها، لعلمهم أنها لم تكن عازمة جازمة، فإذا ثبت لهم ذلك باللفظ، أو بالقرينة، كانوا أسرع الناس إلى تنفيذها.
وفي أحد الأسفار للغزو، كانوا صائمين في رمضان، فأمرهم بالإفطار، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، متأولين أنه إنما أراد الرفق بهم، ولم يكن في الأمر ما يدل على الإلزام الجازم، فلما اقتربوا من التلاحم مع العدو، قال لهم: "إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا" فكانت عزمة، فأفطروا.
ورأيناهم في حديث "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم وأصبغوا" يرون الأمر هنا لمجرد الإرشاد أو الاستحباب، فلهذا امتثل بعضهم وصبغ، وبعضهم لم يصبغ، ومنهم من صبغ بالحناء، وبغيرها، ومنهم من صبغ بالسواد.
وكذلك حديث: لا تسم ابنك ولا غلامك، نافعا ولا يسارا ولا رباحا..الخ، رأيناهم يسمون نافعا ويسارا، كما هو ثابت في أسماء التابعين، مثل نافع مولى ابن عمر، وسليمان بن يسار، وعطاء بن رباح، وغيرهم.
ولهذا رأينا إماما مثل ابن تيمية، يحمل حديث "من مس فرجه فليتوضأ" على الاستحباب.
وكذلك الوضوء من أكل لحوم الإبل، يراه للاستحباب لا للوجوب، خلافا لمذهب إمامه أحمد في المثالين.