منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم
عرض مشاركة واحدة
قديم 23-11-2007, 11:13 PM   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
إبراهيم العبّادي
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم العبّادي
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم العبّادي غير متصل


إرسال رسالة عبر MSN إلى إبراهيم العبّادي

افتراضي مشاركة: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم

الكف عمن قال (لا إله إلا الله)



ولا يخفى على دارس أن أخطر أدوات التدمير لبنيان الاتحاد أو التقارب بين العاملين للإسلام خاصة، وللمسلمين عامة، بل هو أشد خطرا على الإطلاق: هو التكفير، أن تخرج مسلما من الملة، ومن دائرة أهل القبلة، وتحكم عليه بالكفر والردة.

فهذا بلا ريب يقطع ما بينك وبينه من حبال، فلا لقاء بين مسلم ومرتد فهما خطان متوازيان لا يلتقيان.

وقد ذكرت في رسالتي (ظاهرة الغلو في التكفير) أخطاء هذا الاتجاه وأخطاره فهو خطيئة دينية، وخطيئة علمية، وخطيئة حركية وسياسية.

والسنة النبوية تحذر أبلغ التحذير من اتهام المسلم بالكفر، في أحاديث صحيحة مستفيضة.

ومن ذلك: حديث ابن عمر مرفوعا: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه".

وحديث أبي ذر: "من دعا رجلا بالكفر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه" أي رجع عليه.

وحديث أبي قلابة: "من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله".

ومن هنا كان الواجب على أبناء الصحوة الإسلامية، الكف عن كل من قال: "لا إله إلا الله" فقد صحت الأحاديث أن من قالها فقد عصم دمه وماله، وحسابه على الله.

ومعنى أن (حسابه على الله) أننا لم نؤمر بأن نشق عن قلبه، بل نعامله وفق الظواهر، والله يتولى السرائر.

وقصة أسامة بن زيد مع الرجل الذي قتله في المعركة بعد ما قال (لا إله إلا الله) واضحة كل الوضوح، فقد أنكر عليه الرسول الكريم قتله بعد قولها، ولم يقبل منه دعواه أنه قالها تعوذا من السيف، قائلا: هلا شققت عن قلبه؟!

ولهذا لا يجوز اقتحام هذا الحمى، وتكفير أهل الإسلام، لذنوب ارتكبوها أو بدع اقترفوها، أو آراء اعتنقوها وإن أخطؤوا الصواب فيها.

يقول الإمام ابن الوزير في هذه النقطة:

من مرجحات ترك التكفير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بذلك في هذه المسألة بالنصوصية والخصوصية، وهذا من أوضح المرجحات. وفي ذلك أحاديث: منها حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل.. الحديث" رواه أبو داود في كتاب الجهاد من السنن. ورواه أبو يعلى من طريق أخرى، وليس فيها من ضعف إلا يزيد الرقاشي العبد الصالح، ضعف من قبل حفظه، وقد أثنى عليه الحافظ ابن عدي ووثقه، وقال: عنده أحاديث صالحة عن أنس أرجو أنه لا بأس به، هذا مع الثناء النبوي على عموم التابعين، فأقل أحواله أن يقوي طريق أبي داود ويشهد لها.

الحديث الثاني: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو حديث أنس بمعناه. رواه أبو داود.

الحديث الثالث: عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب من كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب" رواه الطبراني في الكبير من حديث الضحاك بن حمرة عن علي بن زيد، وحمرة بالحاء والراء المهملتين بينهما ميم.

قال الهيثمي: مختلف في الاحتجاج بهما. قلت: لكن حديثهما يصلح في الشواهد ويقوى بما تقدم..

وفي الباب عن علي بن أبي طالب عليه السلام وأبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدريوعائشة رضي الله عنها وعنهم، سبعتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بمثل ذلك، لكن في أسانيدها مجاريح لكن بمجموعها ـ مع ما تقدم ـ قوة، ولحديث علي عليه السلام شواهد عنه وهو ما تقدم من عدم تكفيره الخوارج من طرق، ومن رده لأموالهم من طرق، ويعضد ذلك عمل الصحابة، فعن جابر أنه قيل له: هل كنتم تدعون أحد من أهل القبلة مشركا؟ قال: معاذ الله! ففزع لذلك، قال: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا. رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، والحديث إذا اشتهر العمل به في الصحابة دل على قوته. وهذه الشواهد السبعة والحديث الذي قبلها كلها في مجمع الزوائد في أوائله.

ثم يذكر وجها آخر فيقول:

قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ، والظاهر أن أهل التأويل أخطؤوا، ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم، لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله تعالى في خطاب أهل الإسلام خاصة: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) (سورة الأحزاب: 5) وقال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (سورة البقرة: 286) وصح في تفسيرها أن الله تعالى قال: قد فعلت، في حديثين صحيحين: أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن أبي هريرة، وقال تعالى: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) (سورة آل عمران: 135) فقيد ذمهم بعلمهم، وقال في قتل المؤمن مع التغليظ العظيم فيه: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) (سورة النساء: 93). فقيد الوعيد فيه بالتعمد، وقال في الصيد: (ومن قتله منكم متعمدا) (سورة المائدة: 95). وجاءت الأحاديث الكثيرة بهذا المعنى، كحديث سعد وأبي ذر وأبي بكرة ـ متفق على صحتها ـ فيمن ادعى أبا غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فشرط العلم في الوعيد.

ومن أوضحها حجة: حديث الذي أوصى ـ لإسرافه ـ أن يحرق ثم يذرى في يوم شديد الرياح، نصفه في البر، ونصفه في البحر، حتى لا يقدر الله عليه، ثم يعذبه! ثم أدركته الرحمة لخوفه، وهو حديث متفق على صحته عن جماعة من الصحابة، منهم حذيفة وأبو سعيد وأبو هريرة، بل رواته منهم قد بلغوا عدد التواتر، كما في جامع الأصول، ومجمع الزوائد، وفي حديث حذيفة: أنه كان نباشا.

وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد، ولذلك خاف العقاب، وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالا فلا يكون كفرا إلا لو علم أن الأنبياء جاءوا بذلك، وأنه ممكن مقدور، ثم كذبهم أو أحدا منهم، لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (سورة الإسراء: 15).

وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل.

ويعضد ما تقدم بأحاديث "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" وهي ثلاثة أحاديث صحاح.

ولهذا قال جماعة جلة من علماء الإسلام: إنه لا يكفر المسلم بما يبدر منه من ألفاظ الكفر إلا أن يعلم المتلفظ بها أنها كفر. قال صاحب المحيط: وهو قول أبي علي الجبائي ومحمد والشافعي.

ولعل هذا الحديث الصحيح بل المتواتر حجتهم على ذلك.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) (سورة البقرة: 285-286). وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.

والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليه الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.

والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" وقال صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله" وقال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه" وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وقال: "إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.

وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك أن الله قد أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟" وهذا في الصحيحين وفيهما أيضا من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير، قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.

وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ! ومع هذا لم يوجب عليه قودا، ولا دية، ولا كفارة، لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا.

فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) (الحجرات: 9) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.

ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.

هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: (إن الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا لست منهم في شيء) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة" وقال: "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" وقال: "الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم".

فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا".

وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كانت تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا، وكان قد رد بدعة ببدعة.

حتى إن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة، وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. كلام شيخ الإسلام.

هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية بوضوح، منكرا أشد الإنكار على من يكفرون الناس بذنب أو خطأ داعيا إلى التزام الجماعة وعدم الشذوذ عنها، ومجوزا الصلاة وراء المبتدع.

ومع هذا نجد فيمن ينسبون أنفسهم إلى ابن تيمية من يجهل هذه الحقائق كلها، ومن يشهر سيف التكفير في وجه كل من يخالفه في رأي يرى أنه الحق، حتى إن من هؤلاء من كفروا طوائف كبيرة تتبعها جماهير غفيرة من الأمة كالأشاعرة ومنهم من تطاول على كبار العلماء والدعاة، وحكم بكفرهم، غير خائف أن يبوء هو بذلك، كما أنذر بذلك الحديث الشريف.

رد حديث الآحاد لشبهة لا يكفر به:

ومن الخطأ البالغ الذي يقع فيه بعض الناشئين في العلم، أو الحدثاء في الدعوة، أو المتعجلين في الفتوى: تكفير من ينكر بعض الأحاديث الصحاح منأحاديث الآحاد، التي ربما أخرجها الشيخان: البخاري ومسلم، أو أحدهما لشبهات لاحت لهم، قد تكون قوية معتبرة، وقد تكون واهية لا اعتبار لها، ولكنها ـ في نظر أنفسهم ـ شبهات جعلوها عللا قادحة في ثبوت فن الحديث.

فهم يردون الحديث، لأنهم يرونه مخالفا لدلالة القرآن الواضحة، أو للأحاديث اليقينية المتواترة، أو للعلم القطعي المؤكد، أو للواقع التاريخي الثابت، أو لدلالة الحس أو العقل، أو غير ذلك ـ مما جعله علماء الحديث أنفسهم من دلائل الوضع في الحديث ـ وإن كان غيرهم لا يسلم لهم بذلك.

ولا وجه للحكم بالكفر في هذه المسألة، إذ العلماء لا يكفرون إلا من أنكر السنة مطلقا، ولم يعتبرها مصدرا للأحكام الشرعية بعد القرآن، لأن من فعل ذلك يلزمه أن ينكر الأمور المعلومة من الدين بالضرورة التي لم تثبت إلا بالسنة مثل كون الصلوات خمسا، وأن لكل منها وقتها المعلوم، وركعاتها المحددة، وهيئاتها المعينة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، وهذا كله مما ثبت بالسنة.

أما من أنكر حديثا أو جملة أحاديث من أحاديث الآحاد، فلم يذهب فقيه واحد ولا عالم معتبر إلى كفره.

وهؤلاء أئمة أهل السنة لم يكفروا الخوارج ولا المعتزلة، رغم إنكارهم لأحاديث كثيرة من أحاديث الصحاح، كأحاديث رؤية الله تعالى في الجنة رغم استفاضتها، وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها، مما ذكره ابن قتيبة ورد عليه في كتابه الشهير (مختلف الحديث).

وكم من إمام رد حديثا يراه غير صحيحا، ولا يراه هو كذلك.

بل من المحدثين أنفسهم من يرد من الأحاديث ما يصححه غيره، ولهذا ترك البخاري أحاديث أخرجها غيره.

وهذا إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين رد أحاديث (فرائض الصدقة) التي أخرجها الشيخان.

ولقد كان لأم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ آراء خاصة في شأن بعض الأحاديث التي تراها مخالفة لظاهر القرآن، فتردها وتتهم الصحابة الذين رووها بأنهم أخطؤوا ولم يحسنوا السماع والتلقي من النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا مثل موقفها من حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" إذ تراه معارضا لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقد رواه أكثر من صحابي.

وحديث: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها" إذ ترى أن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرة وأن المرأة كانت كافرة.

وحديث وقوفه صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، ومناداته لصناديد قريش بأسمائهم بعد دفنهم: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا".

وقول عمر وبعض الصحابة: أتكلم قوما قد جيفوا؟!

يقول العلامة ابن كثير بعد أن ذكر هذا الحديث في كتابه: (البداية والنهاية: وهذا مما كانت عائشة رضي الله عنها تتأوله من الأحاديث (كما قد جمع ما كانت تتأوله في جزء) وتعتقد أنه معارض لبعض الآيات، وهذا المقام مما كانت تعارض فيه قوله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور) (سورة فاطر: 22).

قال: وليس هو بمعارض له. والصواب قول الجمهور من الصحابة ومن بعدهم، للأحاديث الدالة نصا على خلاف ما ذهبت إليه رضي الله عنها وأرضاها.

ولم يتهم أحد من الصحابة ولا من بعدهم أم المؤمنين رضي الله عنها برقة دينها، أو ضعف يقينها، أو تنكرها لسنة زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد خالفوها جميعا، وبينوا الخطأ في وجهة نظرها، ولكن أحدا لم يمسها بكلمة بسبب آرائها هذه، بل جمعوا آراءها في كتب مفردة وتحدثوا عنها بكل إجلال وتوقير، لأنها صادرة عن اجتهاد، فهي معذورة فيه، بل مأجورة عليه.






 
رد مع اقتباس