منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم
عرض مشاركة واحدة
قديم 22-11-2007, 12:21 AM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
إبراهيم العبّادي
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم العبّادي
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم العبّادي غير متصل


إرسال رسالة عبر MSN إلى إبراهيم العبّادي

افتراضي مشاركة: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم

تحديد المفاهيم والمصطلحات



ومن الأمور المهمة لتقريب شقة الخلاف بين المسلمين عامة وبين الفصائل العاملة للإسلام خاصة: تحديد (المفاهيم) التي يقع فيها النزاع، وبيان مدلولها بدقة ووضوح، يرفع عنها الغموض والاشتباه.
فكثيرا ما يحتد النزاع حول معنى أو مفهوم معين، لو حدد بدقة وشرح بجلاء لأمكن للطرفين أن يلتقيا عند حد وسط.
ومن ثم كان علماؤنا السابقون يحرصون على (تحرير موضع النزاع) في المناظرات والخلافيات، حتى لا تنصب معركة على غير شيء.
وكثيرا ما يشتد الخلاف بين فريقين، ويثور العجاج بينهما، ثم يتبين في النهاية أن الخلاف كان لفظيا، وأن لا ثمرة عملية تجنى من ورائه.
إن الخوارج الذين كفروا المسلمين قديما، واستحلوا دماءهم وأموالهم، ومن لحق بهم من دعاة التكفير حديثا ـ إنما سقطوا في هذه الحفرة لعدم ضبطهم لمفاهيم ومصطلحات كثيرة وردت في نصوص الشرع، فأساؤوا فهمها، ووصفوا لها مدلولات من عند أنفسهم غير ما أراده الشارع منها، فضلوا وأضلوا.
ومن ذلك: مصطلحات الإيمان والكفر، والشرك والنفاق والجاهلية، وما يحوم حول هذه المعاني.
فهم لم يميزوا بين استعمالات الشرع المختلفة لهذه الألفاظ، فإنه تارة يريد بها الحقيقة، وطورا يريد بها المجاز.
فكثيرا ما يراد بالإيمان في نصوصه في القرآن والسنة: الإيمان الكامل، لا مطلق الإيمان، الذي إذا نفي عن صاحبه فقد كفر.
وهذا واضح في آيات الكتاب العزيز، وفي الأحاديث النبوية الصحيحة.
فقوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا) (الأنفال: 3-5) إنما يراد بهم المؤمنون الذين كمل إيمانهم، وليس المراد: أن من لم يوجل قلبه من ذكر الله، أو لم يكن من المتوكلين على الله، يكون كافرا خارجا عن أصل الإيمان.
ومثل قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. والذين هم على صلاتهم يحافظون. أولئك هم الوارثون) (سورة المؤمنين: 1-10) فالمراد المؤمنون الكاملو الإيمان، وليس المعنى أن من لم يخشع في صلاته، أو لم يعرض عن اللغو مثلا يكون كافرا، بل هو مؤمن ناقص الإيمان.
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" لا يعني نفي أصل الإيمان، بل كماله، وليس معناه أن من ارتكب واحدة من هذه الكبائر يكون كافرا كفرا مخرجا من الملة.
ولو كان المنفي هنا هو أصل الإيمان لكان كل من هؤلاء مرتدا، وكانت العقوبة في الجميع واحدة وهي عقوبة المرتد، ولم تتنوع العقوبات ما بين جلد ورجم وقطع.
كيف وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر عن لعن أحد شراب الخمر المدمنين، حين قال أحد الصحابة: اللهم العنة، ما أكثر ما يؤتى به! فقال: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله!
فدل بوضوح على أن مجرد المعصية ـ وإن كانت كبيرة ـ لا يقتلع أصل الإيمان من جذر القلب، بدليل أنه لم يزل يحب الله ورسوله.
ومثل ذلك أحاديث جمة، حفلت بها كتب السنة، تحدثت عن شعب الإيمان وهي بضع وسبعون شعبة.
وذلك مثل: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
"والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا".
"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه".
"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به".
وكذلك الشرك: منه ما هو أكبر، وهو أن يجعل مع الله إلها آخر.
وهو الذي يوصف أهله بأنهم (المشركون) أو (الذين أشركوا).
وهو الذي أخبر الله تعالى نه بأنه لا يغفر (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (سورة النساء: 48،116).
وهذا هو الشرك الجلي، والشرك المطلق، والشرك الحقيقي.
وهناك شرك أصغر، يطلق على بعض المعاصي، التي تنافي كمال التوحيد، كما صح ذلك في عدد من الأحاديث.
مثل: "من حلف بغير الله فقد أشرك"
"إن الرقى والتمائم والتولة شرك".
"من علق تميمة فقد أشرك"
ومثل ذلك الكفر، منه ما هو أكبر سواء كان كفرا أصليا أم طارئا. فالكفر الأصلي مثل كفر الملاحدة والدهريين الذين يجحدون وجود الله تعالى، أو كفر الذين يؤمنون بالله في الجملة، ويكفرون بالنبوة والرسالة، أو الذين يؤمنون ببعض الرسل دون بعض أو بعض ما أنزل الله دون بعض.
اقرأ في ذلك قوله تعالى:
(ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) (سورة النساء: 136).
(إن الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) (سورة النساء: 150،151).
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) (سورة المائدة: 72،73).
والكفر الطارئ هو كفر الردة، وهو الذي يخرج صاحبه من الإسلام بيقين لا يقبل الشك، كأن ينكر معلوما من الدين بالضرورة، أو يعمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر، وهو الذي يمكن أن يقال عمن فعله: (قد بدل دينه).
ومن الكفر كفر أصغر، وهو الذي قيل فيه: كفر دون كفر، وهو ما يطلق على المعاصي، كما ورد في بعض النصوص، وهو إطلاق مجازي، على معنى أنه قد يقضي إلى الكفر، ويؤول إليه، كما قيل: المعاصي بريد الكفر. أو أنه شبيه بأعمال الكفار، أو المراد: كفر النعمة.
وذلك مثل قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 44).
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".
"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
"بين الرجل وبين الشرك والكفر وترك الصلاة".
"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
"لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر"
"ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر.. ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه" أي رجع عليه.
وما قيل في الشرك والكفر، يقال في النفاق، فمنه ما هو أكبر، وهو نفاق العقيدة، وما هو أصغر وهو نفاق العمل.
فأما نفاق العقيدة فهو أن يظهر الإيمان بلسانه وبعض أفعاله، وهو في باطنه كافر بالله أو برسوله، كالذين ذكرهم الله في سورة البقرة، (ومن الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون) (سورة البقرة: 8،9).
وقال عنهم في أول سورة المنافقين: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) (سورة المنافقين: 1،2).
وهم الذين توعدهم الله بأشد الوعيد فقال: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) (سورة النساء: 145).
وأما نفاق العمل، فهو أن تكون له خصال المنافقين وأخلاقهم، وأن يشبههم في أعمالهم، وسلوكهم، ولكنه مصدق بقلبه بالله ورسوله وبالدار الآخرة.
وهذا هو الذي جاءت في مثله الأحاديث الصحيحة المعروفة، مثل: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
"أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
ومثل ذلك: مفهوم (الجاهلية) الذي يدور بين الكبائر إذا كان يتعلق بصلب العقيدة وبين صغائر المعاصي، التي تزل بها قدم المؤمن، كقوله صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل أبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية".
ولذا ذكر البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إنك امرؤ فيك جاهلية" وقول الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء: 48).
إلى غير ذلك من المفاهيم التي يجب تحديدها وتصحيحها وبيانها، حتى لا تلتبس على الناس المعاني، فتضطرب الأحكام.
ولكن الذي ينبغي ذكره، والتنبيه عليه هنا: مفهوم يخطئ كثير من الناس في فهم حقيقته وهو مفهوم (العلو) و(الفوقية) الذي يثبته السلف لله تبارك وتعالى، فبعض الناس قد يفهم منه: أنهم يثبتون لله سبحانه التحيز في جهة مادية حاصرة له عز وجل، ولهذا سارع من لم يعرف حقيقة مذهبهم باتهامهم بالقول بالتجسيم، لأن القول بالجهة يستلزم الحد والجسمية، فأخذوهم بلازم المذهب، وهم يجهلون كنه مذهبهم.
وقد وضح حقيقة مذهبهم في ذلك الإمام عماد الدين الواسطي وهو العلامة السلفي الصوفي الشافعي الذي كان ابن تيمية يسميه (جنيد زمانه) ويقول عنه الحافظ الذهبي: شيخنا القدوة، قال في رسالة (النصيحة):
"إن الله عز وجل كان ولا مكان، ولا عرش، ولا ماء، ولا فضاء، ولا هواء، ولا خلاء ولا ماء.
وأنه كان منفردا في قدمه وأزليته، متوحدا في فردانيته، سبحانه وتعالى في تلك الفردانية لا يوصف بأنه فوق كذا، إذ لا شيء غيره، هو سابق التحت والفوق اللذين هما جهتا العالم وهو لا زمان له، والرب تعالى في تلك الفردانية منزه عن لوازم الحدوث.
فلما اقتضت الإرادة المقدسة، بخلق الأكوان المحدثة، المخلوقة المحدودة ذوات الجهات، اقتضت الإرادة أن يكون الكون له جهات من العلو والسفل، وهو سبحانه منزه عن صفات الحدوث فكون الأكوان، وجعل لها جهتي العلو والسفل.
واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الكون في جهة التحت، لكونه مربوبا مخلوقا، واقتضت العظمة الربانية أن يكون هو فوق الكون، باعتبار الكون المحدث لا باعتبار فردانيته، إذ لا فوق فيها ولا تحت، والرب سبحانه وتعالى كما كان في قدمه وأزليته وفردانيته، لم يحدث له في ذاته ولا في صفاته، ما لم يكن في قدمه وأزليته، فهو الآن كما كان.
لكن لما أحدث المربوب المخلوق ذا الجهات، والحدود والخلاء، والملاء، والفوقية والتحتية، كان مقتضى حكم العظمة للربوبية أن يكون فوق ملكه، وأن تكون المملكة تحته باعتبار الحدوث من الكون لا باعتبار القدم من المكون، فإذا أشير إليه بشيء يستحيل أن يشار إليه من الجهة التحتية، أو من جهة اليمنة أو اليسرة، بل لا يليق أن يشار إليه إلا من جهة العلو، والفوقية، ثم الإشارة هي بحسب الكون، وحدوثه، وأسفله. فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة، وتقع على عظمة الرب تعالى كما يليق به، لا كما يقع على الحقيقة المعقولة عندنا في أعلى جزء من الكون، فإنها إشارة إلى جسم، وتلك إشارة إلى إثبات.
إذا علم ذلك فالاستواء صفة له كانت في قدمه، لكن لم يظهر حكمها إلا عند خلق العرش، كما أن الحساب صفة قديمة له لا يظهر حكمها إلا في الآخرة، وكذلك التجلي في الآخرة لا يظهر حكمه إلا في محله.
فإذا علم ذلك، فالأمر الذي يهرب المتأولون منه، حيث أولوا الفوقية: بفوقية المرتبة، والاستواء: بالاستيلاء، فنحن أشد الناس هربا من ذلك، وتنزيها للبارئ سبحانه وتعالى عن الحد الذي يحصره، فلا يحد بحد يحصره، بل بحد تتميز به عظمة ذاته عن مخلوقاته والإشارة إلى الجهة إنما هو بحسب الكون وأسفله، إذ لا يمكن الإشارة إليه إلا هكذا.
وهو في قدمه سبحانه منزه عن صفات الحدوث، وليس في القدم فوقية ولا تحتية، وإن من هو محصور في التحت، لا يمكنه معرفة بارئه إلا من فوقه، فتقع الإشارة إلى العرش حقيقة إشارة معقولة، وتنتهي الجهات عند العرش، ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ولا يكفيه الوهم، فتقع الإشارة عليه كما يليق به مجملا مثبتا، لا مكيفا ولا ممثلا".
وقد علق العلامة رشيد رضا على كلام الواسطي فقال في تفسير المنار:
أقول: ولاستاذه ابن تيمية نحو ذلك في بيان معنى ما ورد من أن الله تعالى هو القاهر فوق عباده وأنه في السماء، فلا يعنون بشيء مما ورد أن ذات الله القديم محصورة في السماء أو العرش أو محدودة في الجهة التي فوق رؤوسنا، بل صرح ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بأن جهة الرأس كسائر الجهات من اليمين والشمال وغيرهما هي من الأمور النسبية التي لا حقيقة لها في نفسها، وإنما يفسرون ذلك بما علمت.
إن تحديد المفاهيم، وتوضيح المصطلحات، وإزالة الغبش واللبس عنها، يقرب المسافة بين المختلفين، وقد يزيل الخلاف من أساسه إذا صدقت النيات




شغل المسلم بهموم أمته الكبرى



من أكثر ما يوقع الناس في حفرة الاختلاف، وينأى بهم عن الاجتماع والائتلاف: فراغ نفوسهم من الهموم الكبيرة، والآمال العظيمة، والأحلام الواسعة. وإذا فرغت الأنفس من الهموم الكبيرة، اعتركت على المسائل الصغيرة، واقتتلت ـ أحيانا ـ فيما بينها على غير شيء!
ولا يجمع الناس شيء كما تجمعهم الهموم والمصائب المشتركة، والوقوف في وجه عدو مشترك، وما أصدق ما قاله أحمد شوقي:
إن المصائب يجمعن المصابين!
وإن من الخيانة لأمتنا اليوم أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة، اختلف فيها السابقون، وتنازع فيها اللاحقون، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون. في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها التي ربما كنا سببا أو جزءا من السبب في وقوعها.
وهذا ما حدا بابن عمر رضي الله عنهما، حينما سأله من سأله من أهل العراق عن دم البعوض في حالة الإحرام، فأنكر على السائل هذا التنطع والتعمق في السؤال عن هذه الدقائق. على حين أن قومه خذلوا الحسين رضي الله عنه. حتى سفك دمه، ولقي ربه شهيدا مرضيا.
وهكذا قال ابن عمر: هؤلاء يسألون عن دم البعوض، وقد سفكوا دم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
من الخيانة أن يحمى الوطيس، وتنصب المجانيق، ويتقاذف الناس بكلمات أشد من الحجارة، وأنكى من السهام من أجل مسائل تحتمل أكثر من وجه وتقبل أكثر من تفسير، فهي من مسائل الاجتهاد، التي دلت على سعة هذا الدين ومرونته، المصيب فيها مأجور المخطئ فيها معذور، وخطؤه فيها مغفور، بل هو ـ بنص الحديث ـ مأجور.
لهذا كان من الواجب على الدعاة والمفكرين الإسلاميين أن يشغلوا جماهير المسلمين بهموم أمتهم الكبرى، ويلفتوا أنظارهم وعقولهم وقلوبهم إلى ضرورة التركيز عليها والتنبيه لها، والسعي الجاد ليحمل كل فرد جزءا منها، وبذلك يتوزع العبء الثقيل على العدد الكبير، فيسهل القيام به.
إن العالم يتقارب بعضه من بعض على كل صعيد، رغم الاختلاف الديني، والاختلاف الأيديولوجي، والاختلاف القومي واللغوي، والوطني والسياسي.
لقد رأينا المذاهب المسيحية ـ وهي أشبه بأديان متباينة ـ يقترب بعضها من بعض، ويتعاون بعضها مع بعض.
بل رأينا اليهودية والنصرانية ـ على ما كان بينهما من عداء تاريخي ـ يتقاربان، ويتعاونان في مجالات شتى حتى أصدر الفاتيكان منذ سنوات وثيقته الشهيرة بتبرئة اليهود من دم المسيح!
ورأينا على المستوى الأيديولوجي تقارب العملاقين (أمريكا والاتحاد السوفيتي) فيما سمي أول الأمر (التعايش السلمي) ثم تطور إلى أن أصبح (سياسة الوفاق).
وكذلك تقارب أمريكا مع الصين.
أما أوروبا التي مزقتها الحروب والصراعات والنزاعات القومية والإقليمية والسياسية والأيديولوجية، فهي اليوم تقترب حتى يوشك أن تكون دولة واحدة تذوب بين أقطارها الفواصل والحدود.
وأعجب ما في الأمر هو ما يحدث في أوروبا الشرقية ذاتها تلك التي كان يفصلها الستار الحديدي الرهيب عن أوروبا الغربية، واليوم يكاد هذا الستار يرق ويرق حتى يتمزق في النهاية.
وقد علق على ذلك الكاتب السياسي المعروف أحمد بهاء الدين، فقال:
عندما كان ديجول يستعمل في خطابه وأحاديثه تعبير "أوروبا من الأطلنطي إلى الأورال" كان هذا التعبير يقابل من الجميع بمزيج من السخرية والغيظ، "فالأورال" هي الجبال الواقعة بين روسيا وسيبيريا، وبالتالي فمعنى كلامه أنه يتحدث عن أوروبا واحدة تضم شرق أوروبا وغربها.. من روسيا إلى فرنسا وأسبانيا، وكان يقول هذا في أوج الحرب الباردة وانقسام أوروبا إلى شرق وغرب، وبناء سور برلين، وسباق التسلح، وكان حسنو النية من خصومه يقولون: إنه فقط يريد أن (يغيظ) أمريكا في خلافاته معها، لأن من كلامه أنه رغم حلف الأطلنطي وتحالفات (المعسكر الغربي).. فروسيا أقرب إلى أوروبا من أمريكا.
وقد كان ديجول يعني ذلك بالضبط، فقد كان يرى من خلال نظرته للتاريخ أن العالم ينقسم إلى قوميات وليس إلى أيديولوجيات. وأن الجغرافيا أهم في التاريخ من كل النظم السياسية، فالشعب الواحد ـ فرنسا أو ألمانيا أو روسيا ـ تتابع عليه نظم سياسية مختلفة، ملكية أو جمهورية أو رأسمالية أو شيوعية. ولكن الأبقى والأساس هو الانتماء القومي، فرنسا ستظل بعد هذا كله فرنسية، وألمانيا ألمانية، وبهذا المنطق فإن روسيا كانت قيصرية ثم شيوعية ثم أي شيء آخر ولكنها روسية، وبالتالي أوروبية. في حين أن أمريكا يفصلها عن أوروبا محيط بأكمله هو المحيط الأطلنطي. وهذه الحقائق القومية والجغرافية أقوى مما يسمونه حلف وارسو وحلف الأطلنطي.. وقد كان ديجول يحاول في سياساته بغير شك أن يقلل من (هيمنة) أمريكا على أوروبا، كما كان يرى أن النظم الشيوعية إلى زوال.. وكانت هذه أفكار أساسية لديه وليست مجرد سياسات.
وقد كان ديجول، ذلك المفكر، والباحث في فلسفة التاريخ، والمتأمل في تقلب الحضارات.. أبعد الجميع نظرا، فالمتأمل فيما يحدث في شرق أوروبا وفي ألمانيا خصوصا، يصاب بالذهول، ولا يملك إلا أن يجد أن نبوءة ديجول تتحقق دون حرب عالمية ولا صواريخ ولا قنابل ذرية.
الأعجب أن (جورباتشوف) الذي لا بد أن له فلسفة في فهم التاريخ عكس ديجول تماما ـ فهو ممثل الدعوة (الأممية) المناقضة للقومية. والتي ترى أن المهم هو وحدة (الطبقات) العاملة وغيرها ـ تحدث منذ شهور مستعملا عبارة (البيت الأوروبي الكبير) فاهتز العالم لهذه الإشارة، واهتزت أوروبا قبل غيرها. وألمانيا ـ شرقية وغربية ـ قبل أوروبا. فلم يتصور أحد أن التاريخ سيأخذ هذا المنطق (الديجولي) بهذه السرعة المذهلة والبساطة المتناهية.
على أن الأعجب من هذا كله، هو لقاء جورباتشوف ممثل المادية الجدلية للبابا ممثل الكنيسة الكاثوليكية في المقر البابوي في الفاتيكان، وهو ما لم يحدث منذ قامت الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917م.
إن أبناء المسلمين في أقطار شتى يموتون من الجوع، والمرض، ويموتون معنويا بالجهل والأمية، وانتشار المخدرات، ويتعرضون لأخطار التنصير والتكفير والتضليل، فكيف لا نهتم لأمرهم، ونسعى لإنقاذهم، ومن لم لأمر المسلمين فليس منهم؟
إن الأمة المسلمة لا تزرع ما تأكل من القوت الضروري، ولا تصنع ما تستخدمه من السلاح اللازم للدفاع عن الحرمات، ولا من الآلات ما يجعل لها وزنا واعتبارا. فهي كلها ضمن العالم الثالث، ولو كان هناك عالم رابع لنسبت إليه! وكثيرا ما اتهم الإسلام ظلما بأنه سبب تخلفها، مع أنها يوم تمسكت به كانت سيدة الأمم وأستاذة البشرية!
ولقد كتبت دراسة صدرت في كتاب عن (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي) وبينت فيه أن الصحوة ليست بمعزل عن هموم هذا الوطن الكبير، إنها مشغولة الفكر والقلب بهذه الهموم، معنية بالتعرف على أسبابها والطريق إلى علاجها.
وعنيت ـ بخاصة ـ تيار (الوسطية الإسلامية) الذي يفهم الإسلام فهما شموليا إيجابيا، جامعا بين السلفية والتجديد، موازنا بين الثوابت والمتغيرات، بين النظرة إلى التراث والتخطيط للمستقبل.
لقد تحدثت هناك بشيء من التفصيل عن هموم سبعة أساسية هي:

هم التخلف العلمي أو التكنولوجي والحضاري.

هم التظالم الاجتماعي والاقتصادي.

هم الاستبداد والتسلط السياسي.

هم التغريب والغزو الفكري والثقافي.

هم العدوان والاغتصاب الصهيوني.

هم التجزئة والتمزق العربي والإسلامي.

هم التسيب والانحلال الأخلاقي. ولو شئنا لأضفنا إليها هموما وهموما، مثل الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية والمجاعات المهلكة، والهجمات التنصيرية الشرسة، وغيرها.. وغيرها.. ومنذ أشهر كنا في الكويت في اجتماع الجمعية العامة للهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وفي الجلسة الختامية وقف أحد الأعضاء يتحدث عن هموم الجهاد الأفغاني وما يحاك من مؤامرات. وقام آخر يتحدث عن ثورة المساجد، وأشبال الحجارة وأبطال الأرض المقدسة، وما يلقون من عنت اليهود وكيدهم وأذاهم، ومن صمت العرب، وعجز المسلمين من حولهم، وقام ثالث يتحدث عن مأساة لبنان، ونزيف الدماء والخراب الذي استمر سبعة عشر عاما، نتيجة الصراع الداخلي والتآمر الخارجي، والعجز العربي. وقام رابع يتحدث عن باكستان وزحف العلمانية عليها، مجسدة في امرأة مسنودة من الغرب والشرق، ومن الصليبية والوثنية، وقام خامس يتحدث عن الفتنة التي أضرمت نارها بين موريتانيا والسنغال: الدولتين الجارتين المسلمتين، وإثارة النعرة الجاهلية: عرب وزنوج.. وقام سادس يشرح مؤامرة جون جرنج في جنوب السودان وتطاوله على الشريعة الغراء، واعتباره العروبة والإسلام دخيلتين على السودان.. وقام سابع يشير إلى ما يجري في الصومال للمسلمين، وسابع يحكي عن آريتيريا والتآمر الصليبي الماركسي عليها، وغيره عن جهاد المسلمين في الفلبين، وآخر عن مآسي المسلمين في قطاني، وفي بورما، وفي بلغاريا. ولم يقف الأمر عند الأقليات الإسلامية المتناثرة في العالم هنا وهناك، بل الأكثريات الإسلامية نفسها مهددة في عقر دارها. فأكبر بلد مسلم في آسيا مفتح الأبواب لحملات التنصير، وهو أندونيسيا وكذلك أكبر بلد مسلم في إفريقيا، وهو نيجيريا. أفيسع مسلما غيورا على دينه، مهتما لأمر أمته ـ عنده مسكة من عقل ـ أن يعرض وينأى بجانبه عن هذه الهموم الضخمة، ثم تراه يقوم ويقعد ويبرق ويرعد من أجل جزئيات علمية أو سلوكية، لا تدخل في دائرة الضروريات، ولا الحاجيات، وإنما هي كلها في نطاق التحسينات والكماليات، وفي سبيل هذه الفرعيات لا يبالي أن يمزق الشمل الملتئم، ويوقظ الفتن النائمة، ويحرك العصبيات الساكنة. هذا على حين يجد العالم من حولنا يتناسى الخلافات الجذرية بين بعضه البعض، وهو ما أثمر التقارب العالمي الذي نشهده اليوم على أصعدة شتى. لهذا يجب أن لا نشغل الناس بالمسائل الفرعية، ونقيم الدنيا ونقعدها من أجل قضايا جزئية أو خلافية، ونلهيهم بذلك عن الأصول الكلية والقضايا المصيرية. ويدخل في هذا الموضوع: الإعراض عما لا ثمرة له، ولا طائل تحته من البحث في الموضوعات التي شغلت العقل الإسلامي فترة أو فترات من التاريخ، ثم لم يعد لها اليوم مكان. وذلك مثل موضوع (خلق القرآن) الذي احتل مساحة واسعة من التفكير الإسلامي في بعض العصور، وحميت المعركة فيه بين المعتزلة وغيرهم واستطاع مفكرو المعتزلة أن يورطوا الدولة العباسية وحلفاءها في هذا الصراع، وأن يدخلوا مع جمهور المسلمين وعلمائهم، وأئمتهم ـ وعلى رأسهم الإمام الرباني الصابر المحتسب أحمد بن حنبل ـ وأن يستخدموا الحديد والنار والسجن والتعذيب لإجبار المخالفين على ترك ما يعتقدون وموافقتهم فيما إليه يدعون. لقد كانت فتنة مظلمة، ومحنة قاسية، يحمل وزرها الذين وسموا بأنهم دعاة الحرية الفكرية! على كل حال لهذه الفتنة ظروفها ومبرراتها في وقتها، ولكن لا يوجد أي مبرر لإحيائها اليوم بوجه من الوجوه. ولهذا عجبت ممن يتحدث عن الزيدية أو الأباضية أو غيرهما من الطوائف بأنهم يقولون بخلق القرآن، فما ينبغي لهذه المشكلة أن تثار عند أي من الفريقين. إن مشكلتنا كذلك مع الذين يؤمنون بإلهية القرآن، ولكنهم لا يرتضونه منهاجا للحياة، ودستورا للدولة والمجتمع.






 
رد مع اقتباس