منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم
عرض مشاركة واحدة
قديم 18-11-2007, 02:26 AM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
إبراهيم العبّادي
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم العبّادي
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم العبّادي غير متصل


إرسال رسالة عبر MSN إلى إبراهيم العبّادي

افتراضي مشاركة: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم

الفصل الثاني : الدعائم الفكرية في فقه الاختلاف .

الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة




طبيعة الدين

يجب أن يعلم الذين يريدون جميع الناس على رأي واحد، في أحكام العبادات والمعاملات ونحوها من فروع الدين: أنهم يريدون ما لا يمكن وقوعه، ومحاولتهم رفع الخلاف لا تثمر إلا توسيع دائرة الخلاف. وهي محاولة تدل على سذاجة بينة، ذلك أن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية غير الأساسية ضرورة لا بد منها.

وإنما أوجب هذه الضرورة طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة.

طبيعة الدين:
فأما طبيعة الدين، فقد أراد الله تعالى، أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه، وأن يكون في المنصوص عليه المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنيات، والصريح المؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط، فيما يقبل الاجتهاد والاستنباط، وتسلم فيما لا يقبل ذلك، إيمانا بالغيب، وتصديقا بالحق، وبهذا يتحقق الابتلاء الذي بنى الله عليه خلق الإنسان: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) (الإنسان:2).

ولو شاء الله لجعل الدين كله وجها واحدا، وصيغة واحدة، لا تحتمل خلافا ولا تحتاج إلى اجتهاد، من حاد عنها قيد شعرة فقد كفر.

ولكنه لم يفعل ذلك، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة، وطبيعة الناس ويوسع الأمر على عباده.

أجل لو شاء الله تعالى أن يتفق المسلمون على كل شيء، ولا يقع منهم اختلاف في شيء، ولو كان فرعا من الفروع، أو أصلا من الأصول غير الضرورية لأنزل كتابه كله نصوصا محكمات قاطعات الدلالة، لا تختلف فيها الأفهام ولا تتعدد التفسيرات، ولكنه جل شأنه أراد أن يكون في كتابه المحكمات ـ وهن أم الكتاب ومعظمه ـ وفيه المتشابهات، وهن أقله، وفي ذلك ابتلاء من ناحية، وشحذ للعقول لتجتهد من ناحية أخرى.

فيقول تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) (آل عمران: 7).

بل إننا نجد ـ قبل مرحلة الفهم والتفسير ـ مرحلة القراءة نفسها، فقد تعددت القراءات في كتاب الله إلى سبع، بل إلى عشر، وهي القراءات المتلقاة بالقبول من الأمة، ولم ير أحد من علماء المسلمين في ذلك أي حرج، لأنها كلها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سمعت رجلا قرأ آية، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ خلافها، فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهة، فقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".

وروى الجماعة مثله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضيته مع هشام بن حكيم.

قال العلامة ابن الوزير معلقا على هذا الموضع:

فهذا الخلاف الذي نهي عنه، وحذر منه الهلاك، هو التعادي. فأما الاختلاف بغير تعاد فقد أقرهم عليه، ألا تراه قال لابن مسعود: "كلاكما محسن" حين أخبره باختلافهما في القراءة؟ ثم حذرهم من الاختلاف بعد الحكم بإحسانهما في ذلك الاختلاف، فالاختلاف المحذر منه غير الاختلاف المحسن به منهما، فالمحذر منه التباغض والتعادي والتكاذب المؤدي إلى فساد ذات البين، وضعف الإسلام، وظهور أعدائه على أهله، والمحسن هو عمل كل أحد بما علم، مع عدم المعاداة لمخالفه والطعن عليه.

قال: وعلى ذلك درج السلف الصالح من أهل البيت والصحابة والتابعين.


طبيعة اللغة

وأما طبيعة اللغة، فلا شك أن مصدر الدين الذي يرجع إليه ويستدل به ويلزم من آمن به، هو القرآن والسنة، كما قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب: 36).

والقرآن الكريم نصوص قولية لفظية، وجمهرة السنة كذلك أقوال ونصوص لفظية وهذه النصوص القرآنية والنبوية يجري عليها ما يجري على كل نص لغوي عند فهمه وتفسيره، ذلك أنها جاءت على وفق ما تقتضيه طبيعة اللغة في المفردات والتراكيب، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز، أو ما يقوله المناطقة: ما يحتمل دلالة المطابقة ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، أو اللزوم.

فيها ما يدل بالمنطوق، وما يدل بالمفهوم، فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، في كل منها ما دلالته قاطعة، وما دلالته محتملة، راجحة أو مرجوحة وما يعتبر راجحا عند زيد يعتبر مرجوحا عند عمرو.

خذ مثلا آية كآية الطهارة من سورة المائدة، وهي قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) (المائدة: 6).

كم في هذه الآية من آراء وأقوال للفقهاء اختلفت أفهامهم وتعدد تفسيراتهم، وجلها يتعلق بأمور لغوية.

هل الترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة ـ مغسولة وممسوحة ـ فرض أو لا؟

وهل الغاية في قوله "إلى المرفقين" وقوله "إلى الكعبين" داخلة أو لا؟

وهل الباء في قوله "برؤوسكم" تفيد الإلصاق أو التبعيض أو هي زائدة؟

وما تأويل قراءة "وأرجلكم" بالجر؟

وما المراد بقوله تعالى "أو لامستم النساء" لمس البشرة للبشرة أم كناية عن الجماع كما يقول ابن عباس؟

وما المراد بالصعيد في التيمم؟ أهو التراب أم كل ما كان من جنس الأرض؟

وما المراد باليد في قوله "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" أهي مجرد الكفين أم ما ذكر في الوضوء، وهو ما يصل إلى المرفقين؟

وما معنى قوله "فلم تجدوا"؟ أيدخل فيه فقدان الماء حكما وإن وجد حقيقة؟ كما إذا كان محتاجا إليه لشرب أو عجن أو طبخ؟

إلى غير ذلك من الاحتمالات التي أخذ بكل منها إمام من الأئمة.





طبيعة البشر

وأما طبيعة البشر، فقد خلقهم الله مختلفين، فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وطابعه المتفرد، يبدو ذلك في مظهره المادي، كما في مخبره المعنوي، فكما ينفرد كل إنسان بصورة وجهه، ونبره صوته و(بصمة) بنانه، ينفرد كذلك بلون تفكيره وميوله وذوقه، ونظرته إلى الأشياء والأشخاص والمواقف والأعمال.

وإن من العبث كل العبث أن يراد صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء، وجعلهم نسخا مكررة، ومحو كل اختلاف بينهم، فهذا غير ممكن، لأنه مخالف لفطرة الله التي فطر عليها الناس، وغير نافع لو أمكن لأنه لا نفع في مخالفة الفطرة، بل من خالف الفطرة عاقبته عقابا معجلا.

ثم إن هذا الاختلاف إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والتنوع دائما مصدر إثراء وخصوبة، وهو آية من آيات الله الدالة على عظيم قدرته وبديع حكمته: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) (سورة الروم:22).

وكما جعل الله النخل والزرع مختلفا أكله، والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه، وأنواعها من الزرع والثمر (يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل) (الرعد:4). كذلك خلق الناس مختلفين، وإن كانوا كلهم من ذكر وأنثى.

فمن الناس من يميل إلى التشديد، ومنهم من يميل إلى التيسير، منهم من يأخذ بظاهر النص، ومنهم من يأخذ بفحواه وروحه، منهم من يسأل عن الخير ومنهم من يسأل عن الشر مخافة أن يدركه، منهم ذو الطبيعة المرحة المنبسطة ومنهم ذو الطبيعة الانطوائية المنكمشة.

وهذا الاختلاف في صفات البشر، واتجاهاتهم النفسية، يترتب عليه ـ لا محالة ـ اختلافهم في الحكم على الأشياء، والمواقف والأعمال، يظهر ذلك في مجال الفقه وفي مجال السياسة، وفي مجالات السلوك اليومي والعادي للناس.

من أبرز الأمثلة لهذا الاختلاف ما عرف واستفاض عن كل من الصحابيين العالمين الجليلين: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعا.

فقد كان ابن عمر يبعد الأطفال عنه حتى لا يسيل شيء من لعابهم عليه، تحرزا مما يشتبه في نجاسته، وابن عباس يضمهم إليه، ويقول: إنما هم رياحين نشمها.

وكان ابن عمر يغسل باطن عينيه في الوضوء، ويرى أن لمس المرأة ينقض الوضوء، وابن عباس لا يرى ذلك.

وأزيد على هذا موقفهما من مناسك الحج، فقد كان ابن عمر يرى التحصيب (النزول بالمحصب) من سنن الحج، وابن عباس يقول: التحصيب ليس بسنة أي إن نزول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه لم يكن مقصودا للتشريع والاتباع.

ومثل ذلك موقفهما من الحجر الأسود والمزاحمة عليه، فقد روى سعيد بن منصور عن القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى. (أي يجرح ويسيل منه الدم).

وفي رواية أنه قيل له في ذلك، فقال: هوت الأفئدة إليه، فأريد أن يكون فؤادي معهم!

وفي مقابل هذا روى الفاكهي من عدة طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة، وقال: لا يؤذي ولا يؤذى.

وقبل ابن عمر وابن عباس، نجد موقف الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد كان لكل منهما اتجاهه، وطريقته في معالجة الأمور، فأبو بكر يمثل الرفق والرحمة، وعمر يمثل القوة والشدة، وهذا ينعكس على رأي كل منهما في المواقف والأحداث.

ومن أظهر الأمثلة لذلك ما كان منهما في شأن أسرى بدر.

يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) (الأنفال: 67-69).

قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عاصم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم! فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس!" فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك. فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء، قال: وأنزل الله عز وجل: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك.

وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟" فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، فاضرم الوادي عليهم نارا، ثم ألقهم فيه! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليهم شيئا، ثم قام فدخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (سورة إبراهيم: 36). وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (سورة المائدة: 118). وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (سورة يونس: 88). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) (سورة نوح: 26). أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق.

إن طبائع الناس وأمزجتها تختلف من شخص لآخر، فتختلف لذلك مواقفها، حتى بين الأخوين الشقيقين، وأبرز مثال لذلك من الأنبياء موسى، وهارون، عليهما السلام ومن الصحابة الحسن والحسين رضي الله عنهما.





طبيعة الكون والحياة

وأما طبيعة الكون الذي نعيش فيه ـ أو بتعبير أدق: في جزء صغير منه ـ فقد خلقه ربه الأعلى سبحانه مختلف الأنواع والصور والألوان، اقرأ قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء) (سورة فاطر: 27،28).

ولكن هذا الاختلاف الذي نبه عليه القرآن، ليس اختلاف تضارب وتناقض، بل هو ـ كما نؤكد دائما ـ اختلاف تنوع وتلون، ولهذا تكررت في القرآن كلمة "مختلف ألوانه" في أكثر من سورة، وأكثر من مناسبة.

بل نجد القرآن الكريم ينفي بعبارة صريحة ما ينبئ عن التضارب أو التعارض في الكون، وذلك في قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (الملك: 3).

وكذلك طبيعة الحياة، فهي أيضا تختلف وتتغير، بحسب مؤثرات متعددة منها المكان والزمان.





الاختلاف رحمة

والاختلاف ـ مع كونه ضرورة ـ هو كذلك رحمة بالأمة، وتوسعة عليها، وقد روي في ذلك حديث اشتهر على الألسنة لا يعرف له سند، وإن كنت أرى أنه صحيح المعنى، وهو ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير عنه صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة".

ويؤيد معنى هذا الحديث ما رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين: "إن الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعونها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".

والأشياء المسكوت عنها تكون عادة من أسباب الاختلاف، لأنها تكون منطقة فراغ تشريعي، يحاول كل فقيه أن يملأها وفقا لأصوله، واتجاه مدرسته، فواحد يتجه إلى القياس، وآخر إلى الاستحسان، وثالث إلى الاستصلاح، ورابع إلى العرف، وغيره إلى البراءة الأصلية… وهكذا.

المهم أن الحديث يشير إلى أن السكوت عن النص على حكم معين في هذه المنطقة كان مقصودا، فلا يضل ربي ولا ينسى، وكان الهدف هو الرحمة والتيسير على الأمة.

وإذا كان في هذا الحديث بعض الضعف، من ناحية إسناده، فهناك حديث آخر في معناه يشهد له، وهو ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا"، ثم تلا: (وما كان ربك نسيا) (الآية 64 من سورة مريم).

فالعفو هنا في معنى الرحمة في الحديث السابق، وكلها تدل على قصد التوسعة والتيسير على هذه الأمة. وذلك يتمثل في أمرين:

1. ترك النص على بعض الأحكام، أو (السكوت عنها) بتعبير الحديث الشريف وترك ذلك للعقول المسلمة لتجتهد في فهمه في ضوء المنصوص على حكمه.

2. صياغة ما نص عليه من الأحكام ـ في غالب الأمر ـ صياغة مرنة بحيث تتسع لتعدد الأفهام، وتنوع الآراء والاجتهادات.

ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يضيقوا ذرعا بذلك.

بل نجد خليفة راشدا من أئمة الهدى ـ وهو عمر بن عبد العزيز ـ يرى بما أوتي من علم وبصيرة، في اختلاف الصحابة سعة ورحمة فيقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة.

يعني أنهم باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم. كما أنهم سنوا لنا سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية، وظلوا معها أخوة متحابين.

ويروى ذلك عن القاسم بن محمد أيضا أحد الفقهاء السبعة المشهورين في عهد التابعين بالمدينة، فقد سئل عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه، فقال: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.

وروى ابن عبد البر النمري بسنده إلى يحيى بن سعيد قال: ما برح أولو الفتوى يفتون، فيحل هذا، ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه.

وذلك أن الاجتهاد مشروع، واختلاف الرأي لازم، والشرع لم يحرم المجتهد المخطئ من الأجر، وكل يعمل بما ترجح له، وهذا هو معنى التوسعة والرحمة هنا. وليس معناه أن جميع الأقوال ـ وإن تناقضت ـ صواب، بل الصواب أحدهما، ولكن الجميع محمودون مأجورون، كما قال تعالى: (ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما) (الأنبياء: 79).

وقد استقر هذا المعنى واشتهر (أن الاختلاف توسعة ورحمة) عند المتقدمين والمتأخرين.

فالإمام الخطابي (ت 340هـ) ذكر حديث "اختلاف أمتي رحمة" مستطردا، وقال: اعترض على الحديث رجلان: أحدهما ماجن والآخر ملحد، وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا! تم رد كلامهما.

ومن المتأخرين نجد من يؤلف كتابا يسميه (رحمة الأمة باختلاف الأئمة).

ويذكر العلامة الشيخ مرعي الحنبلي في تنوير بصائر المقلدين: أن اختلاف المذاهب في هذه الملة رحمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، فاختلافهما خصيصة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة.












الاختلاف المذموم

إذا كان الاختلاف في الفروع وبعض الأصول ضرورة، ورحمة وسعة ثروة ـ فما معنى ذم الاختلاف الذي ورد في النصوص الشرعية؟

والجواب: أن الاختلاف المذموم هو:

1. ما كان سببه البغي واتباع الهوى، وهو الذي ذم الله به اليهود والنصارى من أهل الكتاب وغيرهم، الذين دفعهم حب الدنيا، وحب الذات إلى الاختلاف رغم قيام الحجة ووضوح المحجة، قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين آتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) (البقرة: 213).

وقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) (آل عمران: 19).

وقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين، وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (الجاثية: 16-17).

2. الاختلاف الذي يؤدي إلى تفرق الكلمة وتعادي الأمة، وتنازع الطوائف، ويلبسها شيعا، ويذيق بعضها بأس بعض.

وهو ما حذر منهالقرآن الكريم، والسنة المطهرة، أشد التحذير.

يقول القرآن بعد الأمر بتقوى الله حق تقاته، والثبات على الإسلام إلى الممات: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) (آل عمران: 103).

وفي هذا السياق نفسه يحذر من التفرق كما تفرق الذين قبلنا، فيصيبنا ما أصابهم: (لولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران: 105).

وفي موقف آخر يقول: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا، إن الله مع الصابرين) (الأنفال: 46).

ويذم المشركين والمحرفين من أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فيقول: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم من شيء) (الأنعام: 159).

ويقول في سورة أخرى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه، واتقوه، وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون) (الروم: 30-32).









اعتراض ورده

في أحد المؤتمرات الشبابية كنت أقرر هذه المعنى وأشرحه: معنى أن الاختلاف في الفروع والجزئيات رحمة، ولكن أحد المشاركين اعترض على ذلك بقوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم) (سورة: هود 118-119).

قلت له: النص القرآني الذي ذكرته حجة لي، لأنه بين أن الاختلاف واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته عز وجل، وهذا يدل على أنه أمر واقع، ماله من دافع، لأن مشيئة الله الكونية لا راد لها، وما شاء الله كان.

قال: ولكن النص استثنى من المختلفين من رحمهم الله تعالى، فدل على أن الاختلاف ينافي الرحمة.

قلت: هذا صحيح فيمن كان الاختلاف وصفا ثابتا لهم لا عرضا طارئا عليهم وهذا لا يكون إلا في الاختلاف في العقائد والأصول، كاختلاف اليهود والنصارى وأهل الملل والنحل، بعضهم مع بعض، واختلاف الفرق داخل كل ملة منهم، بحيث يكفر بعضهم بعضا.

أما الاختلاف في الفروع ونحوها مما ليس فيه نص قاطع ملزم، فلا مدخل له هنا.








المختلفون في الفروع من أهل الرحمة

على أن للإمام الشاطبي في كتابه (الاعتصام) تحقيقا نافعا في هذا الأمر وردا قويا على هذه الدعوى لخصته في حينه.

ويحسن بنا هنا أن نذكره من مصدره بلفظ الشاطبي. قال رضي الله عنه، بعد أن ذكر اختلاف أهل الملل السابقة، واتفاق أهل الحق من أمة الإسلام: "ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني، لا بالقصد الأول، فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف.
وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم، يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع العذر، بل لهم في أعظم العذر. ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يرجع إليه. وهو قول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) الآية.

فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله، وذلك رده إلى كتابه، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك رده: إليه إذا كان حيا وإلى سنته بعد موته، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم.

إلا أن لقائل أن يقول: هل هم داخلون تحت قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين) أم لا؟

والجواب: أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه.

(أحدهما): أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) فإنها اقتضت قسمين: أهل الاختلاف والمرحومين، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف، وإلا كان قسم الشيء قسيما له، ولم يستقم معنى الاستثناء.

(والثاني): أنه قال فيها: ولا يزالون مختلفين، فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت، وأهل الرحمة مبرؤون من ذلك، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه، وتلافى أمره، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول، فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع.

(والثالث): أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم، بحيث لا يصلح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه: أنه من أهل الرحمة، وذلك باطل بإجماع أهل السنة.

(والرابع): أن الجماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة.

وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة: ما روي عن القاسم بن محمد قال: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في العمل، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، وعن ضمرة بن رجاء قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث، قال: فجعل عمر يجئ بالشيء يخالف فيه القاسم، قال: وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى تبين فيه فقال له عمر: لا تفعل! فما يسرني باختلافهم حمر النعم. وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة.

ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافه، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق، وذلك من أعظم الضيق، فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة، للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم "من رحم ربك؟!" فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها، والحمد لله".



الاختلاف ثروة

وعنصر آخر نضيفه هنا ـ إلى كون الاختلاف ضرورة من ناحية، ورحمة من ناحية أخرى ـ هو أن الاختلاف أيضا ثروة.

فإن اختلاف الآراء الاجتهادية يثري به الفقه، وينمو ويتسع، نظرا لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية أفرزتها عقول كبيرة، تجتهد وتستنبط، وتقيس وتستحسن، وتوزن وترجح، وتؤصل، وتقعد القواعد، وتفرع عليها الفروع والمسائل.

وبهذا التعدد المختلف المشارب، المتنوع المسالك، تتسع الثروة الفقهية التشريعية، وتختلف ألوانها، من مدرسة الحديث والأثر، إلى مدرسة الرأي والنظر إلى مدرسة الوقوف عند الظواهر، إلى مدرسة الاعتدال أو الوسط، التي تأخذ من كل مدرسة أحسن ما لديها، متجنبة نقاط الضعف في كل مدرسة حسبما يهدي إليه اجتهادها، غير متحيزة لهذه أو تلك، ولا لهذا الإمام أو ذاك، ولا لهذا القول أو ضده.

وفي النهاية يصبح من وراء هذه المدارس والمشارب والمذاهب والأقوال، كنوز لا يقدر قدرها، وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث.

وهو ما نوهت به المجامع والمؤتمرات العالمية في عصرنا، مثل مؤتمر (لاهاي) للقانون المقارن سنة 1936م. ومؤتمر باريس سنة 1951م.

وللمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي قرار قوي في هذا المعنى اتخذه في دورته العاشرة المنعقدة في سنة 1408هـ بشأن موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب والتعصب المذهبي من بعض أتباعها، وهذا نصه:

"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408هـ الموافق 21 أكتوبر 1987م قد نظر في موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب المتبعة، وفي التعصب الممقوت من بعض أتباع المذاهب لمذهبهم تعصبا يخرج عن حدود الاعتدال، ويصل بأصحابه إلى الطعن في المذاهب الأخرى وعلمائها، واستعرض المجلس المشكلات التي تقع في عقول الناشئة العصرية وتصوراتهم حول اختلاف المذاهب الذي لا يعرفون مبناه ومعناه، فيوحي إليهم المضللون بأنه مادام الشرع الإسلامي واحدا وأصوله من القرآن العظيم والسنة النبوية الثابتة متحدة أيضا، فلماذا اختلاف المذاهب؟ ولم لا توحد حتى يصبح المسلمون أمام مذهب واحد، وفهم واحد لأحكام الشريعة؟ كما استعرض المجلس أيضا أمر العصبية المذهبية والمشكلات التي تنشأ عنها، ولا سيما بين أتباع بعض الاتجاهات الحديثة اليوم في عصرنا هذا، حيث يدعو أصحابها إلى خط اجتهادي جديد، ويطعنون في المذاهب القائمة التي تلقتها الأمة بالقبول من أقدم العصور الإسلامية، ويطعنون في أئمتها أو بعضهم ضلالا، ويوقعون الفتنة بين الناس.

وبعد المداولة في هذا الموضوع ووقائعه وملابساته ونتائجه في التضليل والفتنة قرر المجمع الفقهي توجيه البيان التالي إلى كلا الفريقين المضللين والمتعصبين تنبيها وتبصيرا:

أولا: حول اختلاف المذاهب:

إن اختلاف المذاهب الفكرية القائم في البلاد الإسلامية نوعان:

أ. اختلاف في المذاهب الاعتقادية.

ب. واختلاف في المذاهب الفقهية.

فأما الأول: وهو الاختلاف الاعتقادي، فهو في الواقع مصيبة جرت إلى كوارث في البلاد الإسلامية، وشقت صفوف المسلمين، وفرقت كلمتهم، وهي مما يؤسف له ويجب أن لا يكون، وأن تجتمع الأمة على مذهب أهل السنة والجماعة الذي يمثل الفكر الإسلامي السليم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلافة الراشدة التي أعلن الرسول أنها امتداد لسنته بقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ".

وأما الثاني: وهو اختلاف المذاهب الفقهية في بعض المسائل فله أسباب علمية اقتضته ولله سبحانه في ذلك حكمة بالغة، ومنها: الرحمة بعباده، وتوسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص، ثم هي بعد ذلك نعمة وثروة فقهية تشريعية تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد حصرا لا مناص لها منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمة مذهب أحد الأئمة الفقهاء في وقت ما، أو في أمر ما، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقا ويسرا، سواء أكان ذلك في شؤون العبادة أم في المعاملات وشؤون الأسرة والقضاء والجنايات على ضوء الأدلة الشرعية.

فهذا النوع الثاني من اختلاف المذاهب، وهو الاختلاف الفقهي، ليس نقيصة ولا تناقضا في ديننا، ولا يمكن أن لا يكون، فلا يوجد أمة فيها نظام تشريعي كامل بفقهه واجتهاده ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي.

فالواقع أن هذا الاختلاف لا يمكن أن يكون، لأن النصوص الأصلية كثيرا ما تحتمل أكثر من معنى واحد، كما أن النص لا يمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة لأن النصوص محدودة والوقائع غير محدودة كما قال جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى، فلا بد من اللجوء إلى القياس والنظر إلى علل الأحكام وغرض الشارع والمقاصد العامة للشريعة، وتحكيمها في الواقع والنوازل المستجدة، وفي هذا تختلف فهوم العلماء وترجيحاتهم بين الاحتمالات، فتختلف أحكامهم في الموضوع الواحد وكل منهم يقصد الحق ويبحث عنه، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد ومن هنا تنشأ السعة ويزول الحرج.

فأين النقيصة في وجود هذا الاختلاف المذهبي الذي أوضحنا ما فيه من الخير والرحمة وأنه في الواقع نعمة ورحمة من الله بعباده المؤمنين، وهو في الوقت ذاته ثروة تشريعية عظمى ومزية جديرة بأن تتباهى بها الأمة الإسلامية، ولكن المضللين من الأجانب الذين يستغلون ضعف الثقافة الإسلامية لدى بعض الشباب المسلم ولا سيما الذين يدرسون لديهم في الخارج فيصورون لهم اختلاف المذاهب الفقهية هذا كما لو كان اختلافا اعتقاديا ليوحوا إليهم ظلما وزورا بأنه يدل على تناقض الشريعة دون أن ينتبهوا إلى الفرق بين النوعين، وشتان ما بينهما.

ثانيا: وأما تلك الفئة الأخرى التي تدعو إلى نبذ المذاهب:

وتريد أن تحمل الناس على خط اجتهادي جديد لها وتطعن في المذاهب الفقهية القائمة وفي أئمتها أو بعضهم، ففي بياننا الآنف عن المذاهب الفقهية ومزايا وجودها وأئمتها ما يوجب عليهم أن يكفوا عن هذا الأسلوب البغيض الذي ينتهجونه، ويضللون به الناس ويشقون صفوفهم، ويفرقون كلمتهم، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى جمع الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أعداء الإسلام، بدلا من هذه الدعوة المفرقة التي لا حاجة إليها.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين".






 
رد مع اقتباس